السودان ومصر.. تحديث “إصدارة نظام التشغيل”

مثلما تحتاج أجهزة الكمبيوتر إلى تحديث إصدارة ”نظام التشغيل“ كل فترة زمنية فإن العلاقات السودانية المصرية بحاجة حتمية الآن لتحديث إصدارة برمجيات عمل ”الأجهزة“ حتى لا تقع في فخ العمل وفق بيانات فاقدة للصلاحية.

وبعد قرار للحكومة السودانية بزيادة تعرفة الكهرباء غضب المزارعون في الولاية الشمالية المتاخمة لمصر، لكون الزيادة تؤثر على إنتاجهم الزراعي، وترفع من التكلفة، فتفقد المنافسة في ظل تضعضع القدرة الشرائية عامة لضعف الاقتصاد السوداني.

وفي الحال أغلق المزارعون طريق الأسفلت الرئيس الذي يربط العاصمة الخرطوم بالولاية الشمالية ”طريق شريان الشمال“، ولما لم تستجب الحكومة للضغط عمد المزارعون الغاضبون إلى منع عبور الشاحنات المصرية التي تنقل السلع بين السودان ومصر، وتراكمت آلاف الشاحنات، وتوقفت التجارة عبر الحدود السودانية المصرية تمامًا.

ورغم أن حجة أهالي الولاية الشمالية موضوعية، وتستحق النظر والاستجابة الفورية، إلا أنه مع تراخي رد فعل الحكومة _بل تغاضيها_ تطورت المواجهة رأسيًا و أفقيًا، رأسيًا برفع سقف المطالب وأفقيًا بزيادة عدد نقاط إغلاق الطريق _ تسمى في السودان ”التروس“_ وتحولت الاحتجاجات إلى ثورة داخل ثورة.

والمواجهة التي حافظت على كونها سودانية-سودانية بين المواطنين المتضررين من فاتورة الكهرباء والحكومة تحولت تدريجيًا إلى ما يشبه الحملة الإعلامية الكبرى ضد العلاقات السودانية المصرية تحت طائلة اتهامات سرقة الموارد والمواد الخام السودانية، وإعادة تصنيعها في مصر ثم تصديرها إلى دول أخرى تحت علامات تجارية مصرية.

ولم يكن ممكنًا للمواطن السوداني العادي فحص حقيقة هذه الاتهامات بصورة دقيقة لأن الحملة كانت من القوة بما يكفي لردع النظرة الموضوعية، وتحولت إلى مرافعة إدانة لمصر تتجاوز الموضوع المتعلق بسرقة الموارد السودانية إلى تجريم التاريخ السياسي لمصر في السودان منذ ما قبل الإستقلال.

ورغم كون الأزمة عابرة، و أزيلت جزئيًا ومؤقتًا أسبابها بموافقة الحكومة السودانية تجميد زيادة تعرفة الكهرباء استجابة لطلب مزارعي الولاية الشمالية، إلا أن المسار المتعلق بالعلاقات السودانية المصرية لم يَعُد إلى مجاريه الأولى، بل استمرت الحملة الإعلامية في الوسائط بالعنفوان ذاته، وألقت بظلال كثيفة حتى على المنافسات الرياضية خاصة في المباراة التي جرت، أمس الجمعة 18 فبراير 2022، بين فريقي الهلال السوداني والأهلي المصري، وحُرم الجمهور السوداني من الدخول إلى الملعب بناءً على ”تقديرات أمنية“!

والذي يثير الدهشة؛ لم تكن الحملة الإعلامية، ولا المأزق الذي أدخلت فيه علاقات البلدين، بل ما بدا عجز الأجهزة الرسمية في البلدين عن تقديم وصفة علاجية لتجاوز الأزمة، وتصحيح المسار الشعبي لعلاقات البلدين.

وفي تقديري العلة الحقيقية ليست في الإجراءات الغاضبة التي أقدم عليها المواطنون شمال السودان بل بفشل الحكومتين بفهم وتفهم مطلوبات حتمية تصحح الأوضاع بصورة جذرية لضمان علاقات مستقرة ومثمرة لصالح الشعبين.

وعلى مدى حوالي 66 سنة منذ استقلال السودان ظلت العلاقات الثنائية بين البلدين هِبة النظم السياسية، ترتقي إذا ارتقت وتنحدر إذا انحدرت بين الحكومتين، و عَلت الهواجس الأمنية على المصالح الاقتصادية.

وخريطة السياسة الدولية كانت تقرأ إحداثيات الأوضاع في الخرطوم من نقطة ارتكاز في القاهرة، بدرجة أوحت للنظم السياسية المتعاقبة في السودان أن دور مصر الأساس يصب إما في اتجاه تثبيت النظام الحاكم في السودان حال كونه مرضيًا عنه مصريًا، أو خلخلته إذا اختار مسارًا مستقلًا بعيدًا عن محور القاهرة، والخطورة هنا أن الضمير الشعبي في السودان استبطن الإحساس بأن العلاقة مع مصر هي لصالح ميزان النظم السياسية في السودان لا الشعب.

ورغم تدفق ملايين السودانيين سنويًا على مصر للسياحة أو العلاج أو حتى الإقامة لفترات طويلة إلا أن الضمير السائد شعبيًا لم يتخلص من حساسية أن العلاقة الرسمية مختلة لصالح الأجندة المصرية.

وهذا الوضع يتطلب علاجًا يبدأ بما اسميه ”تحديث إصدارة نظام التشغيل“ الذي يدير العلاقات الثنائية بين البلدين بإحداثيات الخط الواصل بين الخرطوم و القاهرة. ولحسن الطالع، فإن المتغيرات الجديدة تخدم مصالح البلدين والشعبين بأكثر مما هو متاح في ظل ”نظام التشغيل“ القديم، لأنه يغير الارتباط فيجعل المنافع الاقتصادية حارسة للأمن القومي للبلدين لا العكس كما كان في نظام التشغيل القديم.

ومن هذا المنظور يتحول السودان من دولة ”مجاورة“ تملك مفاتيح الحدود الجنوبية لمصر، إلى دولة معبر للاقتصاد المصري نحو واحد من أكثر الأسواق العالمية سرعة في النهوض، السوق الأفريقي الذي تتنافس عليه دول كبار مثل: أمريكا، و الصين، وروسيا، وأوروبا، بل وحتى بعض دول أمريكا الجنوبية.

يتحول السودان _وفق التحديث الجديد لنظام تشغيل العلاقات مع مصر_ من ”حديقة خلفية“ للأمن القومي المصري إلى واجهة اتصال Front Desk نحو العمق الأفريقي بما يحقق الثمار الاقتصادية الموجبة لتحصين الأجندة السياسية والأمنية لمصر.

كيف يمكن تحديث ”إصدارة نظم تشغيل“ Operating System العلاقات بين البلدين؟ الإجابة تحتاج إلى مقال آخر.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

عثمان ميرغني

Exit mobile version