احمد يوسف التاي يكتب: فكي آدم ولجنة التفكيك

(1)
فكي آدم ، رجل يحفظ القرآن ، وكنتُ فجر كل يوم اصحو على صوت تلاوته العذب فأصلي واستمع القرآن وأنصت ، لكنه كان يراني كافراً أو منافقاً، أو على أقل تقدير العاصي الذي يرتكب الكبائر وكل الموبقات، وذلك لسبب بسيط هو أنني كنتُ ـ أعاذكم الله ـ اتعاطى التمباك ووقتها لم اتجاوز السابعة عشر من عمري… كان كلما رآني (أدقِّر سفة) يستعيذ بالله ويكفهر وجهه ويغلي الدم في عروقة، ويخوفني بكلامٍ لا هو من القرآن ولا هو من الأحاديث النبوية في تغليظ عقوبة من يتعاطى التمباك، حتى ظننتُ أنه لا سبيل لي من التوبة بعد كل هذه الموبقات..
(2)
في فجر يوم جمعة تركني فكي آدم في العراء بين الأشجار بمكانٍ قفر حيث كنا نقيم الإثنين ونقوم بأعمال الزراعة، وجاء بعد مغيب الشمس يترنح (يمشي سبعة تمانية) وقد لعبت الخمر برأسه، منذ الوهلة الأولى اكتشفت أنه مخمور (واقف لط)… يا فكي إنت الليلة سكرتَ ولا شنو؟!!! هكذا سألته ليس من باب التأكيد ولكن من فرط دهشتي، أجاب بكل هدوء وثقة: (مالو العيش حرام) يعني أن المريسة المصنوعة من العيش (الذرة) ليست حراماً…
(3)
تذكرتُ قصتي مع فكي آدم وتشدده في التمباك وتساهله مع تعاطي الخمور البلدية وأنا أتابع القيامة التي قامت، وتخوين وتجريم أعضاء لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو على نحوٍ أكثر من تجريم الذين شرعت اللجنة في كشف فسادهم… إذا كانت ثمة مقارنة أرى أن تجاوزات لجنة التفكيك تشبه تعاطي التمباك في موازاة نظام نهب البلاد على مدى ثلاثين عاماً وهو مخمور يترنح… من المدهش حقاً أن يُساق الناس وتُصرف أنظارهم بشكل منظم نحو مخالفات إجرائية للجنة يمكن تصحيحها، ويُترك الموضوع الأساسي الذي تم تكوين اللجنة من أجله وهو الفساد الذي لم يشهد السودان مثله منذ فجر الاستقلال، ويكفي في ذلك شهادة شيخ صادق عبد الله عبد الماجد الذي قال حرفياً (عاصرتُ كل الحكومات منذ الاستقلال فلم أجد نظاماً أفسد من نظام الإنقاذ )…
(4)
كل الناس في السودان يعرفون فساد نظام البشير الذي لم يضاهيه فساد وقد انتشر في كل مفاصل الدولة، وحتى الإسلاميين أنفسهم اسهبوا في الحديث عن فساد النظام والأفراد والرموز في مجالسهم الخاصة وعلى الملأ، وكان عندما يطلب البشير أن يؤتى له بدليل على الفساد، كان الرد يأتيه من الإسلاميين قبل الآخرين من أمثال إبراهيم السنوسي الذي أشار ذات مرة في حوار صحفي إلى أن الدليل على الفساد هي العمارات المنتشرة في الخرطوم وأشار إلى أشياء أخرى تُرى بالعين، وكان بعضهم يقول نحن نعرف كل الإسلاميين فهم فقراء أبناء فقراء فمن أين لهم بكل هذه الثروات والبنايات الشاهقة والشركات… ابحثوا عن تصريحات أعضاء المؤتمر الشعبي بعد المفاصلة تجدون كل الشهادات الموثقة، وحتى لو أن الأمر مجرد شبهة فهي شبهة محاطة بالقرائن والدلالات وهي أكبر بكثير من شبهة (إبل) ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والتي أخذ (عمر) شطر منها لشبهة (السمنة) بينما إبل عامة الناس هزيلة …..
(5)
إذن هناك فساد ظاهر في عهد الإنقاذ لا تخطئه العين وإن استعصى الدليل الآن، وهذا هو الموضوع الأساسي يجب ألا يُترك ويتم تمويهه وتمييع قضيته الأساسية والانشغال والتشاغل بسبيكة الذهب المدونة بشكل رسمي ومعلن … أي أخطاء إجرائية ارتكبتها لجنة التفكيك ليست مبرراً لوضع أعضاء اللجنة مكان اللصوص الحقيقيين، وإرسال تطمينات للذين ثبت فسادهم بأنهم ظلموا، لشحذ التعاطف الشعبي لهم، فأخطاء اللجنة الإجرائية واختزالها لسلطات النيابة والقضاء أمرٌ انتقدناه في حينه ومضى حمدوك في تصحيحه أشواطاً… أعود وأقول إن قضية فساد الإنقاذ لن يطمسها القبض على أعضاء اللجنة، ولن يصرف عنها الأنظار ما كان في المؤتمر الصحفي الأخير، وسيظل هو (أم الكبائر)، وما عداه (سفة تمباك) يا فكي آدم… اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق انه يراك في كل حين.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version