السياسي الضخم محمد أحمد المحجوب رحمه الله جاء إلى جامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي يعرض على طلابها بعض برنامج حزبه – حزب الأمة – السياسي ، وحزب الأمة عند أكثر الطلاب في ذلك الوقت مَعدودٌ في زمرة الرجعيين … يحكي والدي الذي كان من بين الطلاب آنذاك أن المحجوب كان كلما قرأ فقرةً من البرنامج نظر إليهم في تحدٍ وهو يقول : (إذا كان هذا البرنامج رجعياً فأنا فخور بهذه الرجعية!!) وأخذ يُردِّد هذه العبارة مرةً من بعد مرة حتى فرغ من عرض البرنامج السياسي جميعاً.
تذكَّرتُ هذه القصة وأنا أقرأ عن التعليم في العصر العباسي على أيام الجاحظ … فإليكم هذه (الرجعيَّة) :
( كان الرجل يبعثُ بولده إلى كُتّاب الحي فيتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة ، ويشدو شيئاً من قواعد النحو والصرف ، ويتناول طرفاً من أصول الحساب ، ثم يستظهر كتاب الله الكريم استظهاراً تاماً مُجوَّداً مرتلاً ، وهو في خلال ذلك يتردد مع أترابه على القاص فيسمع منه أحداث الفتوح ، وأنباء المعارك ، وأخبار الأبطال ، ومقاتل الفرسان ، ومفاخرات الشجعان ، وسير الغزاة والفاتحين ، ممزوجاً ذلك بالمواعظ والعبر وإيراد أحوال الصالحين وأطوار الزهاد والنُّساك والمتقين.
وبعد أن يأخذ من كل طرف من هذه المعلومات نصيبه الكافي يولي وجهه شطر حلقات الدرس بالمساجد العامة ، والمعاهد الجامعة ، والمدارس الخاصة فيقوم من حلقة الفقيه إلى حلقة المحدِّث ، ومن مجلس اللغوي إلى سارية النَّسابة ، ومن حضرة الأخباري إلى دارة المتكلِّم ، ومن معهد المنطقي إلى مجمع الفلسفي ، ومن محفل الأديب إلى قاعة المهندس ، ومن بين يدي المفسر إلى حظيرة الأصولي ، ومن غرفة الرواية إلى بيت الشاعر ، ومن ديوان الكاتب إلى صاحب النجوم ، ومن الاسطرلابي إلى الجغرافي ، ومن مشهد الموسيقار إلى مقعد المغني ، ومن عند المزمار إلى دكانة الوتار. الصبيان والبنات في ذلك سواء ، وإن كان الغالبية في الصبيان دون أخواتهم. حتى السجون ، فقد كان لأهلها حظ من التعليم وكان لهم معلمون يدخلون إليهم في أوقات معينة).
أين مُثقَّفونا اليوم الذين تُخرِّجهم مدارسنا وجامعاتنا (الحديثة) من مُثقَّفي العصر العباسي من أمثال الجاحظ وأبي العلاء المعري وأمثالهما الذين تَلقَّوا ذلك التعليم (الرجعي)؟؟!!
الحُكم على الشيء فرعٌ عن تَصوّره!!
وأكثر تَصوُّرات مُثقَّفِينا (التَّقدميين) عن تاريخنا وتراثنا (الرَّجعي) كاذبةٌ خاطئة فلا تتوقف كثيراً عند أحكامهم عليه!!
عمر الحبر يوسف