قلت بالأمس، إننا كنا – عندما كنا صغارا بحساب سنوات العمر وصغارا من حيث القوى العقلية – نخاف من الشرطة، باعتبار أنها «الحكومة»، وكان بيننا والحكومة ودّ مفقود، وارتبط اسم الشرطة في عقولنا بالاعتقال والسجن بأمر من «الحكومة»، وإلى يومنا هذا يهاب القرويون في جميع الدول العربية الشرطة والقضاء، وكثيرا ما يسمع الواحد منا عبارة التباهي «عمري ما دخلت قسم شرطة أو وقفت قدام قاضي»، من باب تأكيد نظافة السيرة ونقاء السريرة، (هل هذه مؤنث «سرير»؟) وكبرنا وأدركنا أن عمل الشرطة الأساسي هو حمايتنا من المجرمين والمتفلتين، ومنعنا من الوقوع في الغلط، وكلما عرف الناس حقوقهم قل خوفهم غير المبرر من الشرطة، ولا سبيل لإنكار أنه أتى على الشرطيين حين من الدهر كان فيه بعضهم متغطرسا، ويفرد عضلاته، أو يتباهى بسطوته، وشيئا فشيئا عمدت معظم وزارات الداخلية إلى تحسين وجه الشرطة، بجعل الشرطيين أكثر تهذيبا في تعاملهم مع الجمهور، ومع التوسع الحضري (الذي لا علاقة له بالحضارة) ازدادت أعباء وهموم الشرطة، وكشخص عاش معظم سنوات حياته في مراكز حضرية أي مدن كبيرة، ويحترم القانون والناس، فقد تحول خوفي من الشرطة إلى «شفقة» عليهم.
تخيّل أن تكون شرطيا في دورية، وعليك قضاء ما بين 8 و10 ساعات جالسا داخل سيارة متحركة أو واقفة. هذا أمر مرهق وممل، وخاصة إذا خلت تلك الساعات من «الآكشن»، ولا يعني هذا أن الشرطيين يتمنون وقوع الجرائم والمخالفات للقانون، لتخفيف حدة الملل، بل ان حدوثها خلال يوم رتيب يشغلهم لبعض الوقت فيحسون بأنهم «فعلوا شيئا»، أو تخيّل أنك من شرطة الحراسات، وهي مهمة تتطلب أيضا الجلوس مثل أبي الهول طوال ساعات الدوام في نقطة معينة، مع إمكانية التحرك في حدود ستة أمتار أمام المكان الذي أنت مكلف بحراسته، وإن أنس، لن أنسى ما حدث لصديقي الشرطي الذي كان يحرس مدخل إحدى السفارات، وفي ساعات الفجر الأولى، راح في نومة وبندقيته بين رجليه، فمرّ به الضابط المسئول، وحمل البندقية وصاحبنا يشخر… ثم حاول – بحسب روايته – تعديل طريقة جلوسه ليواصل النوم، ومد يده لتعديل موضع البندقية، و… «يا مصيبتي.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. في مجرم سرق البندقية»، وجرى صاحبنا في كل الاتجاهات على أمل العثور على المجرم الذي سرق البندقية، ولكن هيهات، وانتهت مناوبته، فعاد إلى «المركز» ليستعين بـ«صديق» بالطريقة القرداحية ليجد له مخرجا من «كارثة» فقدان البندقية، وهناك فوجئ بضابط يقول له: سلِّم سلاحك وتعال عندي في المكتب، فقال: حااااضر.. المهم أنه اكتشف أن بندقيته في أيدٍ أمينة، وأن مصيره في كف عفريت، وإن لم تخنّي الذاكرة فقد انتهت القضية بسجنه بضعة أيام، مع نقطة سوداء في ملف خدمته، ثم طرده من سلك الشرطة بمجرد انتهاء عقد خدمته.
والشاهد هنا هو ان الشرطة الذين كنا نحسب أن مهمتهم هي البطش بالمواطنين يتعرضون لمحاسبات أشد عسرا من تلك التي نتعرض لها نحن المدنيين إذا خالفنا لوائح العمل، فالمدني المتسيب أو المستهتر بالعمل قد ينال التحذير الشفهي ولفت النظر المكتوب المرة تلو الأخرى، ولو كان تعيس الحظ فقد يمثل أمام مجلس تأديب يقضي بخصم راتب كذا يوم منه، على أبعد تقدير.. يعني، ليس في مخالفة الموظف المدني للوائح العمل عقوبة بالسجن، بينما العامل في السلك العسكري حتى لو كان برتبة ضابط، قد يدخل السجن في مكان عمله من دون الحاجة إلى محاكم وقضاء، لأنه ارتكب مخالفة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]