“النَّزاهة السياسيَّة ليستْ عَقاراً يُباع في الصَّيدَليات”.. الكاتبة ..!
(1)
كان لوالدي – الذي قَدِم إلى مدينة عطبرة من قرية “أُوربي” بشمال السودان – صديق وزميل مهنة وشريك مسكن، كان قادماً هو أيضاً من قرية تقبع في الضفة الغربية لنهر النيل. وكان المُعلِّمان الشابان قد اتفقا ذات يوم على شراء زجاجة عطر من محل “الطير الأبيض” الذي كان متجراً ذائع الصيت بمدينة عطبرة. ولأن أهل القرى في بلادنا كانوا يطلقون كلمة “بخاخ” على كل صنوف العطر، فقد طلبا من صاحب المحل أن يبيعهما “بخاخاً”، ففعل الرجل – بكل سرور – وفي الصباح، وهما يستقبلان يوماً صحواً، سارع والدي وصديقه إلى إكمال هندامهما بنفحاتٍ من ذلك العطر الجديد، ولم تُثنهما تلك الرائحة النفّاذة التي كانت تختلط ببعض العبير عند “البخ”، فظلَّا ينثران الرذاذ المُعَطَّر على ملابسهما حتى خَرَّ بعض الذباب صريعاً تحت أقدامها. وحينما تساءل صديق والدي عن نوع ذلك العطر الذي يقتل الذباب حَمَل والدي علبة البخاخ وما أن ألقى نظرةً فاحصةً عليها حتى انفجر ضاحكاً، ثم ناوَلها صديقه الذي ضحك – بدوره – وهو يقرأ جملة “قاتل الحشرات المُعطَّر” التي كانت مكتوبةً عليها بحروفٍ إنجليزيةٍ أنيقة!. لاحظ كيف شَغَلَ التفكير الرَّغائبي – باقتناء زجاجة عطر – والدي وصديقه عن قراءة المكتوب على علبة البخاخ تلك، وكيف صرفهما اعتيادهما على إطلاق كلمة “بخاخ” على كل زجاجة عطر عن التفكير باحتمال أن لا يفهم البائع مقصدهما فيبيعهما شيئاً آخر – لاحظ هذا – وأنت تقرأ ما يتواتر إلى سمعك من أخبار بشأن تداعيات الحال السياسية الراهنة ..!
(2)
يُحكى أن أكاديمياً مرموقاً كان قد اختار في شبابه أن يستثمر علمه في جامعة ذائعة الصيت بإحدى الدول الأوروبية، ثم مرَّت الأيام وتعاقبت الفصول على هجرته تلك حتى أدركته الكهولة. وفي إحدى زياراته للخرطوم دخل على أحد زملاء مهنته في مقر عمله، فوجده يُشمِّر عن ساعديه وهو يهم بتناول إفطاره البلدي “عصيدة الذرة وملاح الويكاب”!. بعد السلام و”المطايبة”، دعاه صديقه إلى أن يشاركه الطعام، فتمنَّع قليلاً قبل أن يهجم بأصابعه على العصيدة اللذيذة. دارت دوائر “الونسة” واستقر بها المُقام في أوان عودته النهائية إلى البلاد، فاختار الضيف أن يدفن مخاوفه الكثيرة، وبينما كان يفكر في تجميل الأسباب سقطت بضع قطرات من “الملاح اللايوق” على ربطة عنقه الأنيقة – التي كانت باهظة الثمن – فما كان منه إلا أن صاح مُخاطباً جليسه في حَنَقٍ عظيم “ما داير أرجع عشان جنس ده”!. بعض مواقف البشر الخطائين لها أسباب حقيقية يعمدون إلى تغليفها بأسباب أخرى “وجيهة”، يفعلون ذلك خوفاً أو ربما طمعاً. تلك الأسباب لا تخضع عادةً لدقة التحليل إن هي لم تبرح إطارها الاجتماعي العفوي، لكن تصريحات السَّاسة لها شأنُ آخر مع ردود فعل المراقبين وخُلاصات المحللين، ليس لشيءٍ سوى أنها تتحوّل بعد النَّشر إلى شأنٍ عام ..!
صحيفة الصيحة