أذا كان من عاهة من وراء فشل الفترة الانتقالية فهو عقيدة كادرها أنه يكفيه من معارضة الإنقاذ اسقاطها أما تدبير الفترة العاقبة للسقوط فسيحين حينها. وجاءتنا الثورة المضادة من هذه الناحية. بل روجت بأن قحت خلو من الرؤية لما بعد السقوط: فهي للهدم لا للبناء. وأحرزت نجاحها الأول على الانتقالية في ميدان تغيير المناهج في التعليم. والمفارقة مع ذلك أن المعارضة ربما ساهمت جدياً في نقد سياسة الإنقاذ التعليمية بأفضل مما فعلت في جبهات أخرى. فكتب في نقدها جعفر خضر وأم سلمى الصادق من فوق نظر دقيق لكتب مناهجها لا رجماً. وغابت هذه الرؤية للتعليم من هؤلاء الكتاب عن أفق عملية تغيير المناهج وإجراءاتها. وسنرى كيف غابت كتابات لجمهوريين أدنى للدكتور القراي، مدير المناهج. أبلوا فيها بلاء حسناً. وهي كتابات ناجزة ومنهجية لو استصحبها تغيير المناهج لكنا في موقع الهجوم على النظام لا الدفاع بوجهه.
وكتبت يومها ما يلي:
كنت عذرت الدكتور القراي في مصابه في مسعاه لتجديد المناهج بأنه ابن حاضنة سياسية معارضة لم تنم رؤية للتعليم البديل لما بعد الإنقاذ. وفوجئت بأنني ربما عممت بعد اتصال كريم من خلف الله عبود الشريف ليطلعني على كتاب له والنور حمد عنوانه “مناهج الإنقاذ التعليمية: قراء نقدية” (٢٠٠٦). وهو كتاب الرؤية الذي نعيت غيابه وودت لو استكثرنا منه. وفاق توقعي. فنظر الكتاب في الكتب المقررة على مرحلة الأساس كتاباً كتاباً. ومع نقده الثاقب للمنهج إلا أنك لابد أن تعجب بموضوعتيه في استحسان ما رآه مستحسناً في مناهج نظام يكن له مؤلفاه العداء. ورشح في الكتاب شيء رصين من فكر أستاذ المؤلفين محمود محمد طه، وعند اللزوم.
توقف الكتاب حيث ينبغي عند فلسفة التعليم منذ استقلالنا ليرى منزلة فلسفة الإنقاذ منها. فسترى من الكتاب أن تلك الفلسفة راوحت بين تنشئة الجيل على الوطنية والدين والحرية. ثم رَجَحت التنشئة على الدين والإسلامي خاصة بعد خلافة نميري في ١٩٨٣ حيث صارت “أسلمة المناهج” مقصد التعليم. فدعت لجنة عكراوي (اليونسكو ١٩٥٦) إلى تخريج مواطن صادق في عقيدته مدافع عن وطنه، مستقل التفكير، ومسؤول. ولم تخرج دولة مايو في السبعينات عن هذا المعنى. فدعت في ١٩٧٣ إلى إعداد الناشئ لتقبل التغيير بفكر ناقد، وترسيخ مبادئ الوطنية بين أبناء الشعب، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية والحرية. وذكر مؤتمر آخر لمايو في ١٩٧٧، علاوة على ما تقدم، قيم تشرب مبادئ الدين متحرراً من العصبية على عقيدة سليمة فهماً وممارسة.
وجاءت الإنقاذ لترجح كفة الدين على سواها. ففي ١٩٩٠دعت إلى أن يتولى التعليم غرس العقيدة والأخلاق الدينية في النشء، وتربيتهم على هديه لبناء الشخصية المؤمنة العابدة لله المتحررة والمسؤولة. ولم تسم الدين المطلوب غرسه إلا في ٢٠١١ فدعت إلى التعليم كمدخل أساسي لصناعة المستقبل وبناء الأمة. فتسعى عملياته جميعها إلى تخريج جيل رسالي بصياغة القيم الإسلامية وتمكينها في وجدان الطلاب. فصار الدين هو الإسلام وعليه مدار الوطنية والحرية.
وذلك الجيل الرسالي هو ما اتجهت المناهج لتنشئته. فصارت المناهج ساحة للفداء أو حاضنة لتفريخ رساليين لها. ففي كتاب “الإنسان والكون” للصف الخامس ذكر سبل كسب العيش وكُسابه من زراع وعمال وتجار و”عمالنا في الأمن والجيش”. وخص الأخيرين دون غيرهم بوجوب مساعدتهم “بتوفير كل ما يحتاجون إليه وتشجيعهم بالمشاركة في الأعمال العسكرية”. ووجد كتاب خلف الله والنور غض الطرف عن عون المزارعين مستغرباً وهم الذين اخترعوا النفير مما يشارك كثير من الناشئة فيه ضربة لازب. وجاء الكتاب بنشيد من الصف الرابع يقول:
مجاهد صنديد مقاتل عنيد
نشيديّ المُوَقَع
دبابة ومدفع
قولوا بأعلى صوت
يا مرحباً بالموت
وهذا ما كانوا يصرفونه لصغارنا بما هو تحرش بهم.
فتجد المنهج غادر إقليم الحرية التي هي مدار التربية. فقال في كتاب للصف الثامن بردع المرتد والمبتدع. فتقرير القاعدة بهذه القطعية لمن في هذه السن شطط تربوي. فمن شأنه تجفيف شغفهم وربما الإدلاء بوجود معلمهم بفكرة اتفقت لهم حول مادة الردع للمبتدع هذه التي صارت عظمة نزاع بين علماء الدين أنفسهم. وسَيُصدمون، حتى وهم في هذه السن، حين يرون علماءهم لا يهدأ لهم بال يذيعون سماحة الإسلام للعالمين بآيات بينات: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. ولم يتحسب المنهج لعسر التلميذ هنا الذي، إن لم نتداركه تربوياً، ساقه ليظن بنا النفاق. ويتصل بهذا إيراد المنهج لكفارة الصيام التي من ضمنها عتق رقبة. وحق لنا أن نتساءل كيف رتب المنهج لسؤال، والرق التاريخي بل والمعاصر في صلب شقاقنا الوطني، يجهر به طالب شقي إن كان هذا احتمالاً ما يزال لكفارة الصيام في زماننا. ولسنا مع نسخ النص ولكن مع تكييف سياقه ليستساغ.
ورأى كتاب خلف الله والنور في منهاج الدين المقرر إسرافاً في العبارة بغير حاجة. فوقف عند ما يوجب القضاء والكفارة في الصيام ومنه الاتصال الجنسي مع الزوجة أو غيرها. وتساءل الكتاب إن لم يكن الاتصال بغيرها أشد نكاية من مجرد الكفارة. ومن رأى الكتاب أن نكتفي بالزوجة رحمة بالتلميذ الذي يعرف مغبة الزنا.
ما استغربت له بعد قراءة الكتاب هو انحجابه الكامل من خطاب المعارضة لفلسفة الإنقاذ التربوية. وهو احتجاب عطل المعارضة من تنمية رؤية تنجو بها مما لم تنج منه كما هو مشاهد. ووجدت في توصيات الكتاب برنامجاً رشيقاً لفلسفة تربوية عصماء لما بعد الإنقاذ. ومن ذلك كسر مركزية المنهج ليتأقلم، على قوميته، مع حقائق الناس والثقافة والمعاش والمعاد في سائر السودان. والشكوى من مركزية المنهج فاشية وقديمة حتى استنكر بعضم أن يكون الجمل هو بطل كتب المطالعة دون حيوان السودان المتنوع.
كيف لم نُفحم الثورة المضادة بمثل هذه الرؤية النافذة في كتاب خلف والنور؟ كيف حاصرتنا الفلول وفي يدنا هذه الأدلة الدامغة على فساد مناهجها ا التي تصادر ملكة التفكير في الطالب وتجيشه لجهاد غير واجب في بلد المواطنة. لو أشهرنا بوجههم نشيد “مجاهد صنديد” لتلميذ الصف الرابع أعلاه لاستحوا وهم يمضغون إلى حد الاملال أبيات الشاعر كمال الجزولي المعروفة عن حد السيف ونحوه.
عبدالله علي ابراهيم
صحيفة التحرير