“الإنسان يعلو على الإنسان بالبحث عن المعنى”.. مصطفى محمود..!
في موقف المواصلات بأحد شوارع الخرطوم، وفي إحدى ساعات الظهيرة المختنقة بدلال المركبات العامة وازدحام الركاب، توقفت إحدى الحافلات وتدافع الواقفون كعادتهم، وكلٌّ يمني نفسه بمقعدٍ شاغر. أحد الصبية “المشردين” الذين تعج بهم الأسواق اندفع بسرعة صاروخية ونجح في حجز أحد المقاعد. تعالت الأصوات في احتجاج خوفاً من حادثة “نشل” وشيكة قد يكون ضحيتها أحد الركاب. أمسك الكمساري بخناق “المشرد” قبل أن يتدخّل بعض العقلاء لإنهاء الشجار. وبينما هُم على حالهم ذاك، قفز إلى الحافلة مشردٌ آخر كان يمسك بذراع شابة كفيفة، علم الركاب من سياق الحدث أن المشرد الأول كان يزاحمهم لكي يحجز لها مقعداً..!
يقول صاحب الحكاية التي انتشرت في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، إنه وبقية الركاب قد أطرقوا جميعاً – يومها – وفي خجلٍ بالغ من قصور بصائرهم عن مجاراة بصيرة الشابة الكفيفة التي حكمت على أولئك الصبية المشردين بإحساسها فأسلمت أمرها إليهم، بينما عجزت أبصار بقية الحاضرين عن أن تتجاوز الأسمال البالية والأبدان المتسخة إلى رحابة الانتماء الإنساني الجليل. والآن صحح لي إذا أخطأت، كم مرة افترضت الطهر والعفاف في سيدة منتقبة لا تعلم من أمر سلوكها الشخصي شيئاً، وكم مرة خُضت في عرض أخرى لمجرد كونها لا ترتدي الحجاب؟. كم مرة اطمأن قلبك إلى صاحب سلعة ليس لأن بضاعته جيدة بل لأنه كان يملك لحية طليقة ويحمل مسبحة أنيقة؟. كم مرة سألت نفسك لماذا تتقدم الشعوب الكافرة ونتقهقهر نحن على الرغم من كل مظاهر التدين التي نحرص على إتيانها حكومةً وشعباً؟. لماذا تتقدم دولٌ ملحدة وتتأخّر أخرى مسلمة؟. لماذا ترتقي بعض الشعوب رُقيَّاً نورانياً وهي بعيدة كل البُعد عن تلك الروحانيات التي تبثّها المآذن والمنابر وحلقات الذكر في بلادنا على مدار اليوم والساعة..؟!
“نعوم تشومسكي” فيلسوف أمريكي من أصل يهودي، له وقفة نبيلة مع شعبك، قصُرت همم الملتصقين بمقاعد السلطة والمنكفئين على طاولات الحوار في بلادك عن أن تجود بمثلها. فهو الذي انتقد الكراهية غير المعقولة التي تضمرها الحكومات الأمريكية لحكومة السودان، وهو الذي تحدث عن ضلوع بلاده في دعم الإرهاب وهو الذي أدان دورها في تسليح الحركات الإرهابية. وبينما كان مثقفون عرب يشكلون اللجان تلو اللجان لاختيار الفائزين بجائزة “معمر القذافي” لحقوق الإنسان، أرسل الكاتب الإسباني الكبير “خوان جويتيسولو” خطاباً إلى أعضاء اللجنة يشكرهم فيه على اختياره للفوز بالجائزة، ويؤكد – في ذات الوقت – أنه لا يستطيع أن يتسلم جائزة لحقوق الإنسان من نظام سياسي استولى على الحكم في بلاده بانقلاب عسكري ونَكَلَ بمُعارضيه..!
دعك من أهل الفكر والأدب.. هل كان وزير التجارة الياباني الأسبق “يوشيو هاتشيرو” شيخاً وخطيب مسجد عندما قدم استقالته بعد مضي أسبوع واحد على توليه مقعد الوزارة، لأنه تصرَّف على نحو غير لائق، عندما كان في زيارة لمحافظة نووية – تكابد تسرباً إشعاعياً بفعل ضربة أمواج بحرية عاتية – فأطلق مزحة ثقيلة عن تسرب الإشعاع؟. هل كانت الصحف اليابانية تتبع إحدى الطرق الصوفية عندما نشرت الخبر بحياد واقتضاب شديدين، على طريقة “جاءنا ما يلي”، وليس على طريقة “إليكم هذا الخبر المدهش”؟. وإلى أي مبادئ إسلامية تنتمي مواقف الإعلام السوداني – الذي لا ولم يسلم من لعنة تأليه المسؤول – وكأن إقالة بعض الوزراء أو مقاضاة بعض أصحاب المناصب الحكومية خروج أحداث غرائبية تنذر بالخروج عن الملة..؟!
إنها لعنة فك الارتباط بين العبادات والمُعاملات، هو ذلك الجفاء الهائل الذي بات يطغى على علاقة الظاهر بالباطن، حتى كاد أن يصبح للالتزام الديني معنى، ولمكارم الأخلاق معنى آخر. والمنهج الإسلامي القويم من كل ذلك براءٌ. فهل يا ترى من مُذَّكر..؟!
صحيفة الصيحة