السودان.. الانتقال السلس للسلطة

النذير إبراهيم العاقب
ظلت الساحة السياسية السودانية منذ الإطاحة بنظام حكم الإنقاذ البائد، ظلت ترزح في تقلبات ومناكفات شتى بين المكونين العسكري والمدني واللذان يعتبران الشريكان الأساسيان في الحكم منذ أبريل 2019م وحتى الآن، ولم يصلا لصيغ فاعلة لإدارة شأن الدولة السودانية كما يجب أن تكون عليه القيادة الرشيدة وانتقال السلطة السلس، ولعلنا نلاحظ ورغم الاختلافات الواسعة بين مختلف دول العالم فيما يتعلق بأنماط انتقال السلطة، لم تقدم الخبرة المعاصرة حتى اليوم ما يمكن تسميته بالحل الأمثل لهذه المشكلة، فأغلب دول العالم لم تتمكن من دعم وإرساء قواعد مقررة وآليات واضحة، وأشكال وقنوات مؤسسية مقبولة ومعترف بها لشغل فراغ أو تداول السلطة العليا فيها، وإن استطاعت بعض الدول الغربية حسم القضية في بلادها على نحو سلمي وسلس من خلال النمط الانتخابي، إذ أسهم في نقل الخلافة السياسية من أطرها السرية إلى الساحة الشعبية، وأصبح الاحتكام فيها إلى إرادة المجموع أو بالأحرى الإرادة الشعبية بما أعطى لكل القوى السياسية في المجتمع الحق في التطلع إلى شغل المنصب الأعلى أو المشاركة في تدبير شؤونه.
وإذا كانت الثورة السودانية وما أفرزته من تداعيات قد كشفت عن غياب واضح لاستقرار تقاليد مؤسسية تسهم في تحقيق التداول السلمي للسلطة الذي يمثل جوهر الديمقراطية، فإن محاولة معالجة هذا المأزق تتطلب وجود ثلاث ركائز أساسية لتحقيق انتقال آمن للسطلة في السودان.
أولاً: ضرورة وجود نصوص وقواعد قانونية ثابتة تحكم عملية انتقال السلطة، بحيث يكفل الدستور والذي يجب أن يعتبر بمثابة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، وفي تنظيم العلاقات بين مؤسسات الدولة المختلفة ويحقق التوازن المطلوب بينها، غير أن تاريخ التجربة الدستورية في السودان يتسم بخصوصية فريدة خاصة لسلطات الحاكم، وهو ما تبرزه طبيعة الحقوق التي كفلها له الدستور، والتي جعلته القوة الفاعلة الأهم في النظام، أو بالأحرى جعلته يفعل ما يشاء وقتما يشاء، بلا وجود ضوابط تحد من هذه الهيمنة التي لا مثيل لها في دساتير العالم المختلفة، وهو ما أدى إلى صناعة الديكتاتور، وبالتالي، فإن شروط الترشح لشغل المنصب الأهم في الدولة يجب أن يأخذ في الحسبان الوسائل الكفيلة باختيار أفضل عناصر النخبة لقيادة المجتمع، إذ إن العديد من المجتمعات المتقدمة استطاعت حسم هذه القضية من خلال وضع ضوابط على من يحق لهم الترشح لشغل هذا المنصب، أو من خلال إيجاد آليات أكثر قدرة على تجنيد وإفراز المؤهلين للقيادة، فضلاً عن تحديد حدود قصوى لولايات شغل منصب الحاكم، يضاف إلى ذلك ضرورة الحد من السلطات المخولة لرأس النظام في الدستور، وذلك للحيلولة دون جعل كافة مؤسسات الدولة رهناً لرغبته بما يؤدي إلى شخصنة السياسات، وهو توجه يتنافى تماماً مع متطلبات الديمقراطية التي تدعو إلى إرساء قواعد العمل المؤسسي.
ثانياً: امتثال أطراف العملية السياسية لقواعد نقل السلطة بما ينعكس على ضرورة توافر الرضا الشعبي، هذا الأمر يرتبط بالشرعية التي تعني خضوع المحكومين للحاكم الذي تم اختياره طواعية، وفي الواقع، فإن النظم الديمقراطية تستمد شرعيتها من بعدين أساسيين، هما شرعية الحاكم الذي يأتي وفق قواعد مستقرة ومتفق عليها، وشرعية النظام ذاته الذي يخضع له المواطنون طواعية، وقد يفقد الحاكم شرعية وجوده بانتهاء فترة ولايته المقررة وفق الدستور، أو عدم الرغبة شعبياً في إعادة انتخابه مرة أخرى، لكن يظل الملمح الأهم في النظم الديمقراطية في أنها لا تفقد شرعيتها كنتاج لتغيير الحاكم، ولكن تستمر شرعية النظام لوجود قواعد مؤسسية تحقق هذه الاستمرارية، وربما ارتبط اندلاع ثورة ديسمير 2019م في السودان في أحد جوانبه بافتقاد نظام الحكم السوداني لهذه الشرعية، فعندما تتآكل الشرعية، فإن انتقال السلطة يصبح ضرورة حتمية، فلم يعد لهذا النظام أي رأس مال سياسي أو أيديولوجي أو إنجازي يستطيع أن يستند إليه، ويستمد منه شرعية الحكم والبقاء في سدة القيادة، من دون أي توكيل شعبي انتخابي واضح.
مثل هذا النظام، جمهوري كان أو ملكي، تسلم الحكم مباشرة بعد انقضاء الاستعمار الغربي للبلدان العربية جُلَّها، إما عبر حروب تحرير، أو معاهدات انسحاب في حقبة الدولة المستقلة، وارتكز هذ النظام على شرعية الاستقلال نفسه، ثم تبع ذلك شرعية الوعد بالإنجاز، ذلك أن النظام الحاكم الذي أعقب الحقبة الاستعمارية وعد الشعوب بإنجاز دولة قوية واقتصاد ناجح وعدالة اجتماعية، ومع الفشل الذي منيت به معظم الدول العربية، خاصة السودان، في تحقيق رفاهية مواطنيها، برغم ما تزخر به المنطقة من ثروات، فإن التحدي الأبرز الذي سيواجهها هو كيفية إنجاز تنمية اقتصادية مستدامة تحقق العدالة الاجتماعية.

ثالثاً: أهمية تعزيز دور الأحزاب السياسة ومؤسسات المجتمع المدني
تعد الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني مؤسسات وسيطة تهدف إلى التنشئة السياسية، وملء الفراغ الذي خلَّفه غياب الدولة، فوجود حياة حزبية فاعلة يعزز من التعددية السياسية، ويحقق التداول السلمي للسلطة، من هنا، تبرز أهمية وجود قنوات للمعارضة السياسية لتقديم البدائل، وطرح الحلول للمشكلات التي برزت في الآونة الأخيرة كنتاج لأزمة الدولة في السودان، والتي تعاني غياباً واضحا لاستقرار تقاليد الممارسة الديمقراطية، والتي فشلت عبر السنوات الماضية في الاستفادة من تجارب دول عديدة استطاعت أن تحقق تراكماً في مجال التحول الديمقراطي وتعميق المؤسسية، ويرجع هذا الإخفاق بالأساس إلى فشل المعارضة السياسية في تقديم رؤى، أو بالأحرى تقديم برامج تتعامل مع الواقع داخلياً وخارجيًا، فضلاً عن تشرذم هذه القوى، ليس فقط بفضل ممارسات أنظمة الحكم ضدها.. التي لم تختلف من دولة لأخرى.. بل وفشلها أيضاً في توحيد صفوفها، ناهيك عن غياب الممارسة الديمقراطية داخل مؤسسات المعارضة نفسها، فقادة هذه الأحزاب كثيراً ما يرفعون شعارات بعيدة تماماً عن حقيقة واقعهم وممارساتهم.
أما مؤسسات المجتمع المدني في السودان، فبرغم التحديات التي تواجهها في ظل غياب القوانين التي تؤطر عملها بشكل مؤسسي، فإن دورها في مراحل التحول يزداد أهمية، على أساس أن تطوير هذه المؤسسات يمثل سنداً أساسياً لإحداث التغيير والتأثير الفاعلين في مستويات الوعي والقدرة على تعزيز العمل الجماعي، وهي أيضاً سند أساسي لدعم التوجه الديمقراطي وتطويره، باعتباره عملية حيوية يجب تنميتها والحفاظ عليها والاستمرار في تطويرها، كما أن تفعيل هذه المؤسسات هو الكفيل بتكريس قيم الديمقراطية، بما يؤدي إلى تحسين ودعم التحول الديمقراطي، وصولاً إلى مرحلة الرسوخ الديمقراطي، خاصة أن المجتمع المدني شهد تطوراً ملموساً في الآونة الأخيرة، حيث ظهر هذا القطاع كفاعل رئيس في عملية التنمية في مختلف دول العالم، وشريكاً بارزاً للمؤسسات الحكومية في عمليات المساعدة الإنمائية، ومواجهة الفقر والبطالة، وتوسع دوره من مجرد منظمات ترتكز على المنظور التنموي إلى توفير مساحة أكبر من الحرية والممارسة الديمقراطية، والمشاركة في صنع الأحداث واتخاذ القرارات على مختلف الأصعدة، وتحسين إدارة الحكم، عبر تعزيز المساءلة والشفافية، إلى النظام السياسي وحماية الحقوق والتوفيق بين المصالح، وإيصال الخدمات الاجتماعية، بل امتد تأثير هذه المنظمات في تشكيل وتوجيه السياسات العامة العالمية تجاه العديد من القضايا، مثل حقوق الإنسان وحماية البيئة، وبشكل بدأ معه هذا القطاع أحد أبرز الفاعلين على الساحة الدولية، ومن ثم، فإن تعظيم الاستفادة من هذا القطاع يسهم في التهيئة السياسية لانتقال السلطة وتداولها، فثمة علاقة ما وثيقة بين آلية تداول السلطة العليا وآلية تداول السلطة في باقي المؤسسات، سواء كانت أحزاباً أو هيئات مجتمع مدني، ربما لأن الأولى تلخيص للثانية في قمة النظام السياسي، ومن ثم فهي نتاج لها، وربما لأن الثانية تسعى إلى تقليد الأولى والتأثر بها، باعتبارها القدوة في القمة، وربما للسببين معاً، والمؤكد أيضاً أنه ليس من المنطقي أن تنفي الديمقراطية في نقل السلطة العليا، ثم نعثر عليها في باقي المستويات.
رابعاً: ضرورة ضمان العسكر لنقل السلطة إلى المؤسسات المنتخبة
عاد دور الجيوش في حسم قضية الخلافة السياسية ليتصدر المشهد السياسي في أكثر من حالة عربية، ولكن بتدخل مُختلِف ارتبط بخصوصية كل دولة عربية، وطبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والحاكم، ومدى مهنية الجيش وسجله التاريخي، فأداء الجيش في سوريا مثلاً، واستمراره في الدفاع عن سلطة فقدت شرعيتها يختلف عن أداء الجيشين السوداني والمصري اللذان كشفا عن حرفية لا تقل عن مهنيتهما التاريخية، فلا شك في أن الجيش السوداني، بالتحديد، لعب دوراً تاريخياً في إنجاح الثورة السودانية، وبموقفه هذا، فإنه وضع نمطًا جديداً لدور العسكر في السياسة، إذ نقل الشرعية من فوهة المدافع إلى شرعية صناديق الانتخاب، كما أسهم في حماية مؤسسات الدولة من الانهيار، وبالتالي، فإن المجلس العسكري مطلوب منه أن يلتزم بالجدول الزمني لنقل السلطة إلى المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب، ليبقى الشعب هو المصدر الحقيقي للسلطات.
نخلص إلى أن الدولة السودانية بصدد عقد اجتماعي جديد ما بين الحاكم والمحكومين، يكفل آليات أكثر ديمقراطية لانتقال السلطة، والفرصة الآن سانحة لتأسيس نظام حكم سوداني ديمقراطي مستدام، برغم كل التحديات التي تواجه الثورة السودانية، وليس أمام المكونين العسكري والمدني واللذان يجب أن يكونا شريكين صالحين لأجل تحقيق أكبر قدر من التنمية والاستقرار، ليس أمامهما سوى اغتنام هذه الفرصة، وإلَّا فعلى السودان السلام.

صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version