بعدما انسد الأفق السياسي والأمني؛ رجحت الخيارات أن يفصل جنوب السودان في العام 2011، ومنذ ذلك الوقت بدأ الاقتصاد السوداني يتراجع نسبياً ، وازداد تدهوراً بوتيرة متسارعة؛ خاصة بعد فقده مورد خام البترول من آبار الجنوب التي كانت تمثل نسبة كبيرة من بين كل الموارد القومية، وبشكل آخر تعثر الاقتصاد نسبة لقصور وإهمال أودى إلى شل أضخم مشروع زراعي في البلاد، إلى حيث قلة الإنتاج والإنتاجية، ورغم سني الحرب التي استنزفت الكثير من اقتصاديات الدولة على مر العهود الماضية، و بعد إنهاء الحرب في جنوب السودان وإقليمي دارفور وكردفان عقب اتفاق السلام في العام 2020، وكان من المتوقع بعد السلام الذي تم التوصل إليه و عم أرجاء البلاد أن تنجلي الأزمات الاقتصادية وينتعش الاقتصاد، بيد أنه لا جديد يذكر رغم كل الجهود، وكان من الأرجح أن ينصلح حال معاش الناس بدلاً من تفاقم الأزمات الاقتصادية والخدمية بصورة جعلت من الفقر والبطالة عنواناً بارزاً
في الوقت الذي أجمع فيه خبراء وباحثون اقتصاديون بأن يكون للسلام علاقة مباشرة بالوضع الاقتصادي المتدهور في السودان، ويتفق الخبراء على أن أسباب التدهور الاقتصادي بأنها قديمة وترجع أساساَََ إلى سياسات اقتصادية خاطئة تبنتها الإنقاذ، حيث شجعت فيها الاستهلاك والاستيراد، وحاربت من خلالها الإنتاج والصادر، ويلفت البعض إلى أنه رغم تغيير الأنظمة السياسية و تحقيق السلام لم ولن يقودا إلى إنعاش الاقتصاد بسبب استمرار تلك السياسات الاقتصادية المستوردة والجامدة في تكرارها سنوياً .
فاتورة السلام
ويرى المحلل الاقتصادي الدكتور، محمد الناير، إن الحروب في أي بلد تؤثر سلباً على مجمل الأوضاع الاقتصادية، وتؤدي إلى إنهيار اقتصادي وكذلك إلى ضعف العملة الوطنية وخسائر في الأرواح كمورد بشري مهم جداً ، كما تؤدي إلى كثير جداً من التعقيدات، وتعطل التنمية وإيقافها تماماً ، وأكد أن السلام أفضل رغم أنه أحياناً فاتورة السلام قد تكون مكلفة وقد تعادل فاتورة الحرب أحياناً، وبالتالي قد تفوق فاتورة الحرب إذا حدث حالة اللا سلم واللا حرب، كما هو الوضع في السودان الآن، ويشير في حديثه ل(اليوم التالي) إلى أن بعض الحركات التي وقعت على اتفاقية السلام، ولكن هناك بعض الحركات الأخرى لم توقع، أصبح الأمر لا يعرف أنه سلام كامل شامل ولا استمرار حالة الحرب، وبالتالي هذه مشكلة معقدة، وألمح.. إذا تحقق سلام شامل وتم التوافق بصورة كاملة لكل المكونات كان يمكن أن نقول إنه السلام وفاتورة السلام هي البناء والتنمية وغيرها من الأشياء، وأوضح أن الفاتورة ربما تكون مزدوجة منها الأطراف الموقعة على اتفاقية السلام من دمج ومعالجات في إقليم دارفور، ومنها حركات أخرى لا زالت خارج الوفاق الخاص باتفاقية السلام، ويرى المحلل الاقتصادي أن هذه ستعقد المشهد بصورة كبيرة، ويبين أن الاستقرار السياسي والأمني يمهدان الطريق لتحقيق الاستقرار الاقتصادي؛ ولكن الأخير لم يتحقق نسبة لعدم تحقيق الاستقرار السياسي بصورة متكاملة، وقال : صحيح بعد انفصال جنوب السودان – من منتصف 2011 إلى الآن كانت الفترة كافية لتحقيق استقرار اقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتحول الاقتصاد الذي كان يعتمد على البترول إلى تنوع في الموارد وهذا الأمر لم يحدث بصورة علمية وصحيحة حتى الآن.
مورد البترول
الباحث الاقتصادي الدكتور، هيثم محمد فتحي، قال لا أعتقد بأن هناك علاقة باتفاقية السلام بالتدهور الاقتصادي، وهو نتيجة لفقد السودان لمورد مهم جدًا اعتمد عليها من العام 1998 إلى 2011 ألا وهو مورد البترول؛ إذ كان يمثل نسبة كبيرة جداً لواردات خزينة السودان، وكان يوفر عملة حرة بجانب توفير تمويل لبناء مشروعات وتأهيل بنية تحتية، نافياً عن استعدادات أو خطط بديلة للدولة السودانية حتى يتطلع المسؤولون وقتها إلى بناء دولة جديدة، وتابع.. إذا قامت الدولة الجديدة ماذا سيفعل السودان جراء انفصال جنوب السودان الذي استحوذ على آبار البترول الموجودة في الجنوب حتى اتفاقيات عبور البترول عبر موانئ السودان، والاتفاق ماكان واضحاً بين الدولتين قبل الانفصال وبعده، لذلك ما نعيشه الآن هو ليس اتفاقيات سلام ولا تحقيق سلام أو علاقة له بالسلام؛ لأن السودان منذ استقلاله لم يستقر نسبة للحروبات التي كانت في الشرق و الغرب و الجنوب، ويضيف د. هيثم.. ما هي إلا عشر سنوات فقط من العام 1973حتى 1983 كانتا إتفاقية سلام وقعها الراحل نميري، وهذه كانت بمثابة العشر سنوات الحقيقية التي شهدت فيها البلاد استقراراً، ولفت إلى اتفاقية نيفاشا في العام 2005 _ 2011 حيث كانت هناك اضطرابات في الشرق و دارفور، واعتبر أنه لم يكن سلاماً بمعنى حقيقي حتى يعم أرجاء البلاد، وعزا التدهور الماثل الآن هو نتيجة لفقد السودان للبترول، ولم يحتط لهذا القرار السودانى بخطة بديلة لفقدان البترول أو لانفصال الجنوب.
أهمية السلام
واستبعد د. هيثم – عبر إفادة ل(اليوم التالي) – بأن يكون للسلام علاقة مباشرة بالوضع الاقتصادي المتدهور في السودان، وأرجع ذلك إلى أن السودان كان ينعم ببترول، وفي ذات الوقت كانت حرب الجنوب مشتعلة حتى 2005، إلا أنه عاد وأكد أهمية السلام في دعم الاستقرار الاقتصادي وكذلك أهمية السلام في دعم الاستقرار الأمني والتنمية، وقال الباحث الاقتصادي (كلما كان هناك سلام كانت هناك تنمية) وأعرب عن أمله بأن يعم السلام السودان في شرقه وغربه؛ خاصة في هذه الأيام التي نرى فيها شتاتاً وعدم ثبات على كلمة واحدة – هذا على حد قوله، وحث كل الأطراف المتنازعة والأطراف الرافضة للسلام بأن تجلس من أجل السلام وليس من أجل المناصب وتوزيع الغنائم، وزاد قائلاً : يعاب على الحركات التي تكافح من أجل قضية في السودان بأن تركز على المناصب أكثر من المتطلبات والمطالب التي قامت من أجلها.
أسباب التدهور
يقول المحلل الاقتصادي الدكتور، الفاتح عثمان محجوب، إن إتفاقية جوبا للسلام تم توقيعها مع حركات متمردة تم طردها خارج السودان بواسطة الجيش والدعم السريع إضافة لمكونات لا وجود لها على أرض الواقع والتي من بينها مكونات مسارات الشرق والشمال والوسط، وذكر أنه لم يتم التوقيع مع الحركتين المتمردتين اللتين تمتلكان وجوداً حقيقياً على الأرض، أي حركتي الحلو وعبد الواحد نور، واعتبر أن اتفاق جوبا لم يحقق أي سلام على الأرض، ومع ذلك كان عبئاً على مالية الحكومة الانتقالية المرهقة أصلاً ، ورجح عدم تنفيذ بنود اتفاقية جوبا لأسباب فنية وأخرى مالية، خاصة تلك المتعلقة بالترتيبات المالية و الترتيبات الأمنية، وبرر د. الفاتح عبر تصريح ل(اليوم التالي) اتفاقية جوبا للسلام من تدهور الاقتصاد السوداني؛ لأنه لم يتم تنفيذها إلى الآن بشكل فعلي، وأرجع أسباب التدهور الاقتصادي إلى أنها قديمة وترجع أساساً إلى سياسات اقتصادية خاطئة تبنتها الإنقاذ، قائلاً : شجعت فيها الاستهلاك والاستيراد وحاربت الإنتاج والصادر، بل قدمت دعماً مالياً كبيراً للاستهلاك، تضخم تدريجياً إلى أن كاد يبتلع كل الموازنة، وأضاف.. تمت محاربة الإنتاج والصادر وكل ذلك اعتماداً على بترول جنوب السودان، وبالتالي بمجرد انفصال الجنوب توقفت إيرادات النفط ثم تدهور الاقتصاد السوداني بشكل متسارع، وذكر.. أنه كانت تتم عمليات إنعاش مؤقتة عبر المنح والقروض من الدول العربية الشقيقة.
الطريق الصحيح
وقطع د. الفاتح الآن الاقتصاد السوداني بعد التخلص من الدعم السلعي بات على الطريق الصحيح، ورهن ذلك بأن يتم توجيه معظم المنح والقروض و إنفاق الحكومة على دعم الإنتاج والصادر ودعم التعليم والصحة والبنية التحتية، وزاد بالقول إن السلام الحقيقي ليس خصماً على التنمية ولا على نمو الاقتصاد السوداني، بيد أنه يصعب وصف اتفاقية جوبا للسلام بأنها جلبت السلام للسودان، بحكم أنها كانت غير متوازنة فإنها تسببت بأضرار بالغة على الاقتصاد السوداني، خاصة مسار الشرق الذي كبد الاقتصاد خسائر قد تفوق ثلاثة مليارات دولار بسبب إغلاق الميناء والطرق المؤدية له وهو ما تسبب – لاحقاً – لرفع نولون الشحن إلى أكثر من ستة أضعاف القيمة وهو أمر أضر بتجارة السودان الخارجية وحتى بمعاش الناس البسطاء المرتبطين بالموانئ السودانية.
أزمات مالية
يقول المحلل الاقتصادي الدكتور، وائل فهمي بدوي، إن من أبرز خصائص الاقتصاد السوداني الموروث من الاستعمار؛ هو اعتماده على إنتاج تصدير مادة خام رئيسية، و كانت نسبة تصدير القطن في ذلك الزمان حوالي٧٠% من إجمالي الصادرات السودانية للخارج عند الاستقلال في ١٩٥٦، وعندما قلت الأهمية النسبية للقطن عالمياً بسبب تنافسية المنتجات المطاطية، انهارت أسعار القطن السوداني حتى وصلت حصيلته في عام ١٩٩٦ إلى أقل من ٣٠٠ مليون دولار فقط، أي أن المتوسط يتراوح ما بين ٥٠٠ – ٧٠٠ مليون دولار في العام، ومضى قائلاً اتجهت حكومة الإنقاذ التي هددت بالطرد من عضوية مؤسسات بريتون وودز في بدايات تسعينيات القرن الماضي؛ رغم تبنيها بصورة متطرفة لسياسات بريتون وودز النيوليبرالية التي استمرت بها حتى محاصرة السودان مالياً من المجتمع الدولي منذ العام 1997 إلى الاستمرار في تشجيع الاعتماد على إنتاج وتصدير البترول في العام 1999 كسلعة رئيسية للحصول على العملات الصعبة، وذكر أن آبار البترول الرئيسية كانت متمركزة في جنوب السودان قبل انفصاله في ٢٠١١ لتدهور نسبة مساهمة إنتاج وتصدير البترول إلى 95 – 90% من إجمالي الصادرات، و يقصد د. وائل بالتدهور؛ ارتفاع النسبة لسبب تزايد مخاطر قوة وقوع الاقتصاد السوداني في أزمات مالية حادة متى ما انهارت أسعار البترول عالمياً في ظل عدم تغيير وتنويع الهيكل الاقتصادي الموروث منذ الاستعمار أو عدم تنوع الصادرات ناهيك عن ذهاب تلك الآبار ذاتها بانفصال الجنوب، وواصل حديثه بأن الهيكل الاقتصادي الموروث والذي تم التوسع فيه لا يمكنه امتصاص مثل هذه الصدمات الحادة كما تشهد عليه أزمة انهيار أسعار القطن في الأسواق العالمية منذ أزمة الكساد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي.
السمة البارزة
وقال : ووفقاً لاجماع مراقبين آنذاك أن الاقتصاد كانت قواعده الإنتاجية في الزراعة والصناعة والخدمات تتدمر، خاصة بعد خصخصة القطاع العام بمعدلات متسارعة في إطار سياسات التحرير الاقتصادي التضخمية التي تحد من قوة نشاط القطاع الخاص الإنتاجي عادة، بسبب الاهتمام المفرط في الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي، وأشار إلى أن السمة البارزة لفترة ما بعد انفصال الجنوب هي استمرار ذات السياسات الاقتصادية النيوليبرالية لمؤسسات بريتون وودز منذ البدء في تنفيذ البرنامج الثلاثي، وما قبله من برنامج مشابه، لغرض ترضية مؤسسات بريتون وودز وما تبعه من الاتفاق معها في برامج مراقبة تنفيذها منذ العام 1997 وحتى توقفها في عام 2013 من قبل تلك المؤسسات؛ ليستمر البرنامج الخماسي 2015 إلى 2019 بذات النهج حتى مجيء برنامج الصدمة تحت حكومة رئيس الوزراء ووزير المالية وقتها معتز موسى.
السياسات المدمرة
ويضيف د. وائل.. بعد إسقاط نظام الإنقاذ استمرت برامج الصدمة الموروثة تحت حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك المستقيل وحتى بعد استقالته ليستمر وزير المالية الحالي أحد أطراف اتفاقية السلام لصالح فقراء ونازحي دارفور، بنفس ذات النهج وبصيغة أقوى من ذي قبل، ليدشن بداية العام ٢٠٢٢ برفع الدعم عن الكهرباء، وذلك كما كان يتم سنوياً لغيره، بمبررات لا تنتهي منذ 1978 وحتى تاريخه، وقال؛ على الرغم من أن الثورات تجبّ ما قبلها من فلسفة لإدارة الاقتصاد من قبل الأنظمة المبادة، وكما أن تحقيق السلام كان يفترض منه المساهمة في تحسين سياسات إدارة الاقتصاد، إلا أنه أكد أن كلاً من الثورة والسلام و انفصال الجنوب، لم يؤديا إلى القضاء على أزمة السودان المالية المتفاقمة، ببت استمرار ولا انتعاشه رغم تنفيذ ذات السياسات النيوليبرالية منذ عام 1978، وأضاف.. تؤكد الإحصائيات الرسمية استمرار التدهور رغم الأحداث السياسية الكبيرة التي لم تؤدِ إلى تغيير تلك السياسات المدمرة والتي تثبت تلك الإحصائيات بتدميرها لقواعد إنتاج الاقتصاد السوداني، وقال في حديثه ل(اليوم التالي) كل شيء تغير بما فيهم الأجيال وحتى خريطة السودان ولكن لم تتغير تلك السياسات النيوليبرالية التي تثبت كل التحليلات والتقارير بدورها في تدمير الحياة الاقتصادية بالسودان وتآكل قاعدته الإنتاجية كما تآكلت حدود السودان لصالح دول الجوار وهروب الكفاءات ورؤوس الأموال.
إحداث تغيير
وأوضح للصحيفة بأن أطراف السلام و أحد أطرافها وزير المالية د. جبريل إبراهيم، لم يكن لهم أي دور في إحداث تغيير ذي قيمة في سياسات صندوق النقد الدولي النيوليبرالية لتغيير اتجاه الاقتصاد نحو تحسين الحياة الاقتصادية للشعب السوداني، بل أثبتت عملية السلام و ثورة ديسمبر العظيمة أن الاستمرار في ذات السياسات ستؤدي إلى نفس النتائج السلبية السابقة، وقال : رغم تغيير الأنظمة السياسية أو تحقيق السلام لم يقودا إلى إنعاش الاقتصاد بسبب استمرار تلك السياسات الاقتصادية المستوردة والجامدة في تكرارها سنويًا، ونوه إلى أنه لا يمكن توقع نتائج مختلفة باستمرارها في ظل مختلف التغييرات السياسية والعلاقات السياسية المالية الدولية، ويضيف.. بأنه لا جدوى منها في إيقاف التدهور الاقتصادي للناتج المحلي الإجمالي، ويشير إلى أن السلام المتحقق لم يجدِ في تحسين السياسات الاقتصادية الموروثة لإيقاف تدهور الاقتصاد ومعيشة المواطنين، نسبة لعدم وفاء المجتمع الدولي بالتزاماته تجاه السلام، غير أنه أضاف أعباء 5’7 مليارات دولار على مدى عشرة أعوام على كاهل الشعب، إلى جانب مصروفات أخرى بالعملة الوطنية، في الوقت الذي كانت تسعى فيه حكومة السيد عبدالله حمدوك إلى الحصول على إعفاء الديون الدولارية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية والحصول على المعونات والقروض الأجنبية عبر أمنيات تحسين مناخ الاستثمار بسياسات تضخمية طاردة لكل من القوة العاملة و رؤوس الأموال، وذكر في ختام حديثه إذا لم تتغير تلك السياسات المعتمدة على التمويل الأجنبي في ظل قصور حصيلة صادرات المادة الخام الرئيسية ببدائل وطنية تعتمد استراتيجية الاعتماد على الذات بحشد الموارد القومية، فمن غير المتوقع أن تتحقق غير ذات النتائج المتحققة من قبل.
الخرطوم : علي وقيع الله
صحيفة اليوم التالي