باتت حسابات قتلى الاحتجاجات بالسودان على منصات التواصل الاجتماعي وجهة لرفاقهم الباحثين عن إحياء سيرتهم، ببث الروح في تعليقاتهم وتغريداتهم، لا سيما التي خطّوها على تلك المنصات قبل وقت وجيز من مفارقتهم الحياة.
وباتت عبارات مثل “لقد تعبنا يا صديقي، لكن لا أحد يستطيع الاستلقاء أثناء المعركة” التي كتبها عبد العظيم بابكر الذي قُتل وهو يلوّح بأصابع النصر أمام رتل من الجنود، في بدايات الثورة على الرئيس المعزول عمر البشير، كشعار للمحتجين، لبث الحماس في نفوسهم.
رحلة ثمنها العمر
يولي الناشطون اهتماما ملحوظا بمنشورات القتلى على منصات التواصل الاجتماعي، وتحظى بانتشار واسع.
فقبل مقتله برصاصة في البطن، تلقاها في مشاركته بمواكب 13 يناير/كانون الثاني الجاري، بمدينة بحري، كتب الريح محمد (21 عامًا) منشورًا في حسابه على فيسبوك، مصحوبا بصورة لمحتج مكتوب على قميصه “شهدانا ما ماتوا”، أكد فيه حتمية انتصار الثورة السودانية، وإن كان ثمن هذه الرحلة عمره.
يقول أحد أصدقاء محمد، طلب عدم ذكر اسمه، “سلطات الانقلاب تنتقي أفضلنا، لأجل قتل روح الثورة فينا، ولكن هيهات”، معتبرًا رحيل الريح محمد فاجعة كبيرة، وأنه ترك فراغا لا يمكن سدّه بسهولة.
وأضاف للجزيرة نت “محمد كان دوما في الصفوف الأمامية، تجده في خط المواجهة في المظاهرات، كما تجده في مقدمة الصف حين يتعلق الأمر بأعمال التطوع”.
رصاصة أخرى في البطن أخذت روح عبد الله عباس (الروسي) بعد يومين من إصابته في احتجاجات 30 ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم، وتوفي في مطلع العام الجاري، متأثرًا بالإصابة.
عبد الله عباس الذي أخذ لقبه (الروسي) من والدته الروسية الجنسية ظهر قبيل وفاته بلحظات في صورة يتقدم صفوف المحتجين، وقبل وفاته كتب على حسابه عبارة تؤكد أحقيتهم في الحرية كحق أصيل في الحياة.
وتداول رفاق الروسي هذه المقولة للمطالبة بالمضي قدما في طريق الحرية، واستعادة المسار الديمقراطي ببلادهم.
يشدد أحمد نور الدين، القاطن في ضاحية (الفتيحاب) بأم درمان، على مقربة من منزل صديقه الروسي، أن الشاب ذا الـ23 ربيعا كان من أبرز ناشطي الحراك الاحتجاجي.
ويقول للجزيرة نت إن الروسي اتسم بشجاعة فائقة، ولم يتراجع عن حلمه بالدولة المدنية الديمقراطية، رغم استهدافه وإصابته مرات عدة، كما سبق أن اعتُقل إبان حقبة الرئيس المعزول عمر البشير.
ويكشف نور الدين عن تلقي الروسي رصاصة في بطنه يوم 30 ديسمبر/كانون الأول في حين نجا أحد أقرب رفاقه الذين كانوا بجواره من القنص برصاصة أصابته في رأسه بخدوش سطحية.
ويضيف أن الروسي ظل يكابد وينزف ساعات جراء إصابته داخل بيت أسرة أم درمانية آوته هو ورفيقه، بعد إجلائهما من الشارع، نتيجة صعوبة التحرك يومذاك للانتشار الأمني الكثيف.
مع بداية العام الجاري، وبعد ساعات من مقتل الروسي استبدل صديقه حسام الدين آدم (24 عامًا) صورة ملفه الشخصي بصورة صديقه الراحل، وألحقه بعبارات تبيّن حجم الفقد، تقول “أمس كنت في.. أمس كنت حي بتتنفس”.
بعد ذلك بيوم واحد فقط، خرج حسام الدين من سرادق صديقه، ليشارك في احتجاجات الثاني من يناير/كانون الثاني الجاري، ولكنه عاد نهاية اليوم محمولًا على نعش، بعد تلقيه رصاصة في الصدر، ليلحق بصديقه وقد بدا واضحًا أنه لا يستطيع الحياة من دونه.
أصيب مصطفى خضر (18عاما) برصاصة في مشاركته بمواكب 21 أكتوبر/تشرين الأول التي سبقت إجراءات البرهان بـ4 أيام، للمطالبة بمدنية السلطة، ولرفض أي دعوات من قبل المكون العسكري لتوسعة قاعدة المشاركة في الحكومة.
وتوفي طالب الاقتصاد بجامعة الزعيم الأزهري في المستشفى إثر مضاعفات الإصابة، وبعد 3 أيام من إجراءات البرهان، وهو ما جعل جهات الإحصاء تحسبه ضمن قوائم المحتجين على الحكم العسكري.
وذاع منشور لخضر، بدا فيه مبهورا بحالة الحب التي يغمر بها المحتجون قتلاهم، حتى تساءل: وإني إن غدوت شهيدا فهل ستحبونني؟.. فوالله ما رأيت حبا كحب الثوار لشهدائهم.
وفي رد على هذا التساؤل، نجد اسم مصطفى خضر في أول قائمة لقتلى الاحتجاجات صدرت عن وزارة الصحة بولاية الخرطوم أخيرا.
أحد أصغر قتلى الاحتجاجات هو “بيبو” أو محمد المصطفى ماجد زروق (18 عامًا) الذي كان يتأهب لدخول قسم التصميم بكلية الفنون الجميلة التابع لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، لكنه قتل برصاصة في الرأس، إبان مشاركته في احتجاجات 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي في أم درمان.
وعُرف الشاب الصغير بمواهب متعددة، فهو عازف موسيقي، ومحب للتصوير. ومن آخر محادثاته على تطبيق التراسل الفوري (واتساب) مع أحد أصدقائه، علق على احتمال تنحي رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عن منصبه بأنه غير معني بهذا الأمر، وسيواصل التصعيد ولو كان المقابل لذلك موته.
وتنحى حمدوك عن منصبه يوم الثاني من يناير/كانون الثاني الجاري بعد فشله في تقريب وجهات نظر الفرقاء السودانيين، وتواصل الاحتجاجات الشعبية في الشوارع ضد استيلاء الجيش على السلطة، وضد اتفاقه مع رئيس المجلس السيادي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
نماذج ملهمة
قال الكاتب الصحفي والمحلل السياسي، الجميل الفاضل، للجزيرة نت، إن “المقولات والعبارات التي يخطّها قتلى الثورة تكون ملهمة للأحياء، ومن ثم فهي وقود وزاد لمن خلفهم للمضي في طريقهم باندفاع أكبر”، مضيفا “التعامل مع وصايا الأموات تصحبه الصرامة عادة، فما بالك إن كان هذا الميت قد قتل لأجل قضية”.
وعن حالات التحاق بعض قتلى الاحتجاج برفاقهم بعد نشر نعي لهم في منصات التواصل، يفسر الفاضل ذلك بأنه نتاج شعور بالمسؤولية والأمانة المفضية إلى البسالة الشديدة والتضحية.
المصدر : الجزيرة نت