أيوب صديق يكتب: هذا لا يحدث إلا في بلدنا مهد الفوضى ومرتعها

جيش يقاتل في حدود البلاد دفاعا عن وحدة أراضيها، ويُشتم في الخرطوم بأقذع الألفاظ، ابتداء من قاداته وبأسمائهم، إلى أصغر رتبة فيه، وكذلك بقية القوات العسكرية تلحق بها الشتائم والإهانات. يجري ذلك كله فيما يُسمى فرض حالة الطوارئ، التي لا أثر لها في حماية أنفسٍ أو ممتلكاتها، ولا أدري سبب فرضها طالما الحال كهذه!! ومن العجيب أن تخبرنا أخبار العالم أن مجلس الأمن الدولي أصدر بيانا طلب فيه من النظام في السودان رفع حالة الطوارئ، وكأن تلك الحالة مطبقة في حياة الناس. وأعضاءُ المجلس الدولي يعلمون أنها حالة أمر بفرضها السيد البرهان كما أصدر قرارات أخرى، وعجز أن ينفذ أيا منها.

ومن نافلة القول إن من تلك القرارات إقالتُه لمجلس وزراء حمدوك، ثم جعل تلك الإقالة لا تشمل حمدوك نفسه، ثم رجع البرهان إليه يترجاه ليعود إلى منصبه، وكأن شيئا لم يكن. وحمدوك في (محبسه) وقبل رجوعه ظافراً، كنا نسمع في الأخبار أنه يقابل سفراء الغرب ويسمع منهم نصحهم له، بما يجب عليه أن يقوله للبرهان أو لرفاقه الذين يترجونه أن يعود إلى منصبه. كما نقرأ عن الشروط التي كان يشترطها مقابل قبوله العودة إلى منصبه( ليتم الناقصة) من إكمال تنفيذ أجندةِ الذين أتوا به إلى السودان، حتى ينطبق علينا حال ( الجَرب المجرَّب). ومن عجائب الحكم عندنا أن البرهان حل مجلس الوزراء، واستثنى من الحل رئيسه!، ورأيناه كذلك يستثني وزير المالية في ذلك المجلس المحلول ليمارس عمله، وكأنه لم يكن عضوا فيه، بل رأينا وزيرة الحكم الاتحادي تحمل حقيبتها وتعود إلى مكتبها لمزاولة عملها، وكأنها تقول للناس إن حل مجلس الوزراء لا يشملها، وكأنها هي الأخرى ليست من ضمن الحكومة التي حُلت إلا رئيسُها؟! ومما يفاجئنا به كبار مسؤولينا أيضا، أن قرأنا بيانا لمديرة جامعة الخرطوم، البروفسور فدوى عبد الرحمن علي طه، قالت فيه إنها استقالت من منصبها، رفضاً لاتفاق البرهان وحمدوك، ولمَّا تمض أيامٌ إلا وقرأنا خبراً يقول إن مديرة جامعة الخرطوم استقبلت بمكتبها السفيرة النرويجية بالسودان، وسجلت السفيرة زيارة إلى معهد دراسات المرأة والنوع الاجتماعي بالجامعة، حيث تلقت شرحاً موجزاً بشأن تأسيس ذلك المعهد، بوصفه الأول من نوعه على مستوى الجامعات بالسودان. ولعل ذلك النوع الاجتماعي، بمجامعة فدوى هو على شاكلة ذلك النوع الاجتماعي الذي أُسست له استشاريةٌ خاصةٌ بمكتب حمدوك، وخُصص له طابقٌ كاملٌ بعمارة الوقف القرآني في الخرطوم استجابة لطلب المثليين، ليكون مقراً لمستشارة النوع الاجتماعي التي ستُشرف على رعاية شؤونهم، في بلد بلغ فيه الانحطاط الخلقي أوجَه، في عهد حكومة ما بعد الثورة، حتى أغلق البرهان ذلك المقر في ذروة قراراته، والحمد لله أنه لم يتراجع عنه، كما تراجع عن غيره من القرارات.

وعاد السيد حمدوك إلى منصبة، ظافراً، وأول ما فعله هو نقض ما غزله البرهان عروة عروة، وكأنه ينتقم منه، حيث أقال من عينهم البرهانُ من مسؤولين من مناصبهم، واستبدل بهم من زُود بأسمائهم. وقد عُد ذلك إهانة بالغة للبرهان نفسه، وخيبة أمل لمن أيدوه في قراراته. وبعودة حمدوك اشتدتِ المظاهرات، التي ظل منظموها يطلقون عليها المليونيات ولو كانت آلافاً أو مئات، ولكنها عادت في شكل أكثر عنفاً، وأكثر تفسخا أخلاقياً، من شرب الخمر وتدخين البنغو، أولاداً وبنات، نهاراً جهاراً على قارعة الطريق، كما قال ذلك في تسجيل صوتي، شابٌ وصف نفسه بأنه ثائر ولكنه استنكر ذلك المسلك. وبات جيش البلاد يُسمى في المظاهرات جيش احتلال، وبات كثيرٌ ممن يرددون الهتافات ضد القائمين بأمر السلطة يصفونهم بالكلاب وبأسمائهم، وتردد تلك الهتافات نساءٌ بينهن وبين الحياء بعد المشرقين، مثل ما تُردد إحداهن عبارات كلما نُطت بعبارة منها، رد عليها المتظاهرون بعبارة (ثورة) .وهذه ألفاظها:

أولاد الكلب كُتار، نيكولا تِرك وعقار( ثورة). أولاد الكلب هدول، عســكوري وناس أردول ( ثورة). أولاد الكلب عَديل، ناس مني وناس جبريل (ثورة). أولاد الكلب لزم، التوم وهجو وبرطم (ثورة). أولاد الكلب كمان، ناس دقلوا وناس برهان (ثورة). أنحنا أولاد الشعب، جاينك يا بن الكلب ( ثورة). بهذا المستوى!! ثم رأينا ضرباً آخر من النساء الهاتفات وهن يَحملهُن شبابٌ على عواتقهم، وهن تتدلى أفخاذهن على صدورهم، حيث يُمسكونهن منها ويسيرون بهن، وهن يرددن ما أُلفَ لهن ألفاظ تحط من قدر العسكريين، ارتقاءً إلى سب دينهم كما شهدنا ذلك. وزادت مع ذلك كله عملياتُ القتل في صفوق قواتِ الأمن وفي صفوف الشباب المُغررِ به، المزود بالمسكِرات والمنشِطات وبمغيباتِ الوعي، ليمعن تدميرا وخرابا في ممتلكات الدولة. ولا يزال من يُلقون بهم في أتون تلك المظاهرات، يصفون مظاهراتهم بأنها سلمية، وهم لا يتقدمونهم صفوفها بل يكتفون بتحريضهم عليها، ثم بالتصريحات لوسائل الإعلام الخارجية، التي تعمل عمل ( المديدة حرقتني).

وقبيل كتابتي هذا المقال، نعت وسائل الإعلام قتلَ ضابط الشرطة، العميد محمد بريمة حماد، طعنا بسكين أثناء حمايته موكب المتظاهرين جوار معمل استاك، في المظاهرة التي سيرت يوم الخميس، وهو في قوة لم تكن مسلحة، ولما نفدت ذخيرتُها من الغاز المسيل للدموع هجموا عليه فطعن فمات. ومع استمرار تردي الأوضاع في البلاد كثر التحذير مما قد يحدث لها من تفكك ودمار، ويُهيب المحذرون من ذلك بالبرهان أن يتحرك لينقذ ما بقي قبل أن يصعب عليه أن يفعل شيئاً، وهم يرددون عبارة( قبل فوات الأوان) ولكن همُ البرهان الأول كما يبدو هو الاستمرار في الانتقام من الإسلاميين، بإطالة مُدد سَجنهم الذي كان بأمره، كما يقول العالمون بالأمر، وإعادة من تُفرج عنه السلطات العدلية منهم إلى السجن بأمره، وما أمرُ البروفسور غندور ورفاقه عن الناس ببعيد. وأنا ليس بيني وبين البرهان عداوة أو بغضاء، وأقول له ما أقول مِن محضِ النصحٍ له وإبراء الذمة، بأن الله ليس بينه وبين عباده رحم أو نسب، وقد حذر من دعوة المظلوم، كما جاء في قول النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ وهو يبعثه إلى اليمن:( اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب).

ومن فنون السياسة السودانية، بتنا نسمع من البرهان ومن غيره، عن ضرورة الوفاق الوطني، في هذه الفترة الانتقالية، ولكن البرهان يحرص دائماً على ترديد لازمة له و هي ( إلا المؤتمر الوطني). وهنا أذكر أنه ذات يوم قال نائبه السيد حميدتي، وهو يرد على بعضٍ من يريدون منهم أن يسجنوا أعضاء المؤتمر الوطني، فقال لهم حمديتي، إن عضوية المؤتمر الوطني تبلغ حوالي ثمانية ملايين فرد، فأين نجد سجونا لثمانية ملايين فرد؟! والآن رئيسه البرهان يطالب بوفاق وطني، ولكنه وفاقٌ وطنيٌ يستثني ثمانية ملايين شخص من سكانه، فأي وفاق ذلك؟؟!! وهذا ومثله لا يحدث إلا في لبدنا. الذي تبقى الحال فيه بين استمرار تدهور في كل شيء، وتردد البرهان وعجزه عن حسم ما يتطلبه الأمر من حسم، وأنفسٍ في غياهب السجون تدعو عليه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. وهنا أذكره بأبيات تنسب إلى الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

لا تَظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً

فالظلمُ مرتعه يُفضى إلى النَدمِ

تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليك وعينُ اللهِ لم تَنم

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version