كاتب بجريدة لندنية يكتب الهروب إلى الأمام..السودان.. الانتقال المتعثر

القاسم المشترك بين الجميع هو الرغبة بإتمام المرحلة الانتقالية التي تلت الثورة على نظام البشير، والطريق نحو هذا الإتمام هو ما يختلف على تفاصيله الجميع فيشعر المرء بأن البلاد أضاعت البوصلة.

الهروب إلى الأمام
يسهل إطلاق مسميات عدة على ما يحدث في السودان منذ أشهر عديدة، ولكن أيّا منها لن يصيب الحقيقة بدقة وبشكل مجرد، بتعبير أدق.

كل توصيف يتجاهل وجود بعض الصواب لدى كل فريق من الفرقاء المتخاصمين. كما أنه لا ينطوي على إيثار مصلحة الدولة على المصالح الضيقة سواء كانت حزبية أو سياسية أو غيرها. ولهذا لا يعكس الصورة بشفافية الواقع، ولا ينقل للسودانيين التناقضات والتداخلات الداخلية والخارجية الكثيرة المرتبطة بحياتهم.

القاسم المشترك بين الجميع هو الرغبة بإتمام المرحلة الانتقالية التي تلت الثورة على نظام الرئيس السابق عمر البشير، والطريق نحو هذا الإتمام هو ما يختلف على تفاصيله أصحاب السلطة في ما بينهم من جهة، وبينهم وبين الشعب من جهة أخرى، فيشعر المرء بأن البلاد أضاعت البوصلة وتلاشت أحلام التغيير.

لكل من الجيش والقوى السياسية المدنية أخطاؤها في إدارة المرحلة الانتقالية، والاعتراف بوجود هذه الأخطاء وتصويبها هو ما يجب البدء به. ليس لأن هذه الأخطاء هي ما يعطل إتمام الانتقال نحو السودان الجديد، وإنما لأنها أيضا بوابة المتربصين بالانتقال والساعين لإبقاء البلاد في دوامة من الحلقات المفرغة.

لا يمكن للجيش أبدا أن يعيد عهد السيطرة على البشر والحجر في البلاد دون مساءلة من الشعب. كما لا يمكن للقوى السياسية المدنية أن تصادر حق الناس في نقدها ومحاسبتها بكل خطوة خلال المرحلة الانتقالية أو بعدها. وبالتالي لا بد للجميع أن يعترف ويقبل بحقيقة أن الشعب هو ضابط دينامية السودان الجديد.

وفقا لهذا، يمكن القول إن ما تفعله القوى السياسية والعسكرية في السودان اليوم يصنف في سياق الهروب من الأزمة وتأجيل حلها إلى حين قبول الآخرين بالأمر الواقع. وهنا نعني مصادرة الرأي الآخر، والمضي بالبلاد وفق رؤية فريق واحد للمرحلة الانتقالية. وفي هذا مزيج من الأنانية والاستبداد وضيق الأفق.

في الواقع، لا يلام السودانيون على مواصلة التظاهر ضد الأوضاع الراهنة في البلاد، لأن الساسة والجيش لا يقودان سفينة الحكم نحو بر الأمان. والواقع يقول أيضا إن في الشارع من يريد التمرد فقط من أجل تعقيد الأزمة وتصعيب حلها، فالفوضى هي غايته، والفشل هو كل ما يتمناه لغاية ما في نفس من يوعز له.

من أجل استرداد ثقة الشعب يتوجب على قادة السودان اليوم مراجعة أنفسهم وإعادة تقييم قدراتهم على الاستمرار في تولي المرحلة الانتقالية. لم ولن يجدي الرهان على الخارج أيا كان شكل الدعم المنتظر

بين القوى العسكرية والمدنية أيضا من يريد الفوضى ويتمنى أن تستمر، ولأجل هذا يحاول بشتى الطرق أن يؤثر على قرارات فريقه ويدفعه باتجاه الخصومة مع الفرق الباقية. ذلك لأن الخصومة هي الضمانة الوحيدة لاستمرار الفوضى، والعثرة الأساسية أمام أي مكاشفة ومصارحة قد تنتهي إلى إيجاد حل للأزمة.

كانت المصالحة بين رئيس الحكومة السابق عبدالله حمدوك وقادة الجيش قبل بضعة أشهر خطوة هامة على طريق استعادة مسار للمرحلة الانتقالية، ولكنها لم تكتمل، أولا بسبب أولئك الذين يسعون للفوضى، وثانيا بسبب مخاوف وشكوك اتسعت بين صفوف القوى السياسية والعسكرية التي تدير المرحلة الانتقالية.

أبرز وأخطر ما أفرزته الأشهر الأخيرة في السودان هو اهتزاز الثقة بين قادة المرحلة من جهة، وبينهم وبين الشعب من جهة أخرى. وهذه المشكلة مرشحة للزيادة وليس للنقصان مع مرور الوقت. وربما تضع الجميع بعد أشهر قليلة أمام استحقاقات لم يكن أحد يتوقعها، ولا حتى أكثر المتشائمين حيال نجاح التغيير.

إن تقطع شعرة الثقة بين الفرقاء سيؤدي إلى انهيار المرحلة الانتقالية برمتها وعودة البلاد إلى مربع الصفر. فيفقد السودانيون جميع مكاسبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحققت خلال العامين الماضيين بين ليلة وضحاها. كل شيء يزول وكأنه لم يكن، بل قد يفتح الباب أمام خيارات أسوأ من الماضي.

السلام الداخلي هو الأكثر عرضة للخطر في حال انهيار المرحلة الانتقالية. وفشل الوصول للسلام المنشود لا يعني العودة إلى زمن النظام السابق بالضرورة، وإنما قد يقود إلى انقسام الدولة وانفصال أقاليم عن جسدها. خاصة وأن “الراغبين في الاستقلال” قد يجدوا دعما إقليميا من قبل بعض الأطراف المستفيدة.

ربما يكمن المخرج بولادة قوى جديدة من الفرقاء الحاليين لا تشوبها عناصر “تخريبية”. هذه القوى يمكنها الحوار مع بعضها على أرضية صلبة من الثقة والدعم الشعبي الكبير. فالراغبون بالتغيير والحالمون بوطن جديد هم أكثر بكثير ممن يريدون العودة إلى الماضي أو المضي بالسودان نحو مستقبل مجهول.

لا يهمّ ما هي الوجوه التي يمكنها أن تخرج البلاد من أزمتها اليوم، قديمة كانت أم جديدة، عسكرية أم مدنية. المهم فقط هو أن يعترف الفاشلون في السلطة بفشلهم، ويفسحوا المجال أمام غيرهم لمواصلة المسيرة. لا يوجد وطن لا ينجب قادة باستمرار، ولا يمكن لدولة أن تقوم على فرد واحد أو فئة واحدة من الشعب.

من أجل استرداد ثقة الشعب يتوجب على قادة السودان اليوم مراجعة أنفسهم وإعادة تقييم قدراتهم على الاستمرار في تولي المرحلة الانتقالية. لم ولن يجدي الرهان على الخارج أيا كان شكل الدعم المنتظر، كما لم يجدِ التعويل على غرق البلاد في الفوضى ليختلط الصالح بالطالح، ويضيع حق من ضحّى لأجل البلاد.

في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” يقول الروائي السوداني الطيب صالح إنه “ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، وثمار يجب أن تقطف”. ما قاله صالح قبل نحو خمسة عقود يتردد على لسان كثيرين جدا من أبناء شعبه اليوم. هؤلاء يتطلعون إلى الآفاق التي ترسمها حدود بلادهم ولم تراها الأجيال السابقة، كما يثابرون دون كلل أو ملل لقطف ثمار تغيير غرس في أبريل 2019 ولم تزهر أشجاره حتى الآن.

بهاء العوام

صحيفة السوداني

Exit mobile version