لم نتوقّف مُنذ استلام الدكتور عبدالله حمدوك لرئاسة الوزارة، عن توجيه النُصح له، وتحذيره من ألاعيب البعض ومُحاولاتهم المُستميتة في إفشال تجربته، ولم يسلم من نقدنا العنيف لتصرفات من هُم حوله، من مُنطلق أنّنا من أهلِ مكة وأدرى منه بشعابها لمُعاصرتنا للسياسة الداخلية ولبعض الساسة بحكم المهنة، وكذلك لمعرفتنا للكثير من تفاصيل الحياة السياسية المُعقّدة، وفي ظننا أنّ غياب الرجُل الطويل من السودان، قد يوقعه فريسة في فك من يُجيدون تجميل القبيح، وتقبيح الجميل، وخوفاً عليه من أن يجعلونه لا يرى إلّا بمنظارهم، ويحجبوا عنه ما قد يُهدد وجودهم حوله، وما أكثر هؤلاء في زمان الفوضى كما تعلمون.
تضاعفت حدة النقد له بعد اتفاقه الأخير مع البُرهان وعودته الثانية لرئاسة الوزارة، فقد أصبح الهدف الأول لسهامنا، وطلبنا منه عدم الموافقة على المُشاركة، وطالبناه بالاستقالة السريعة قبل أن يُعلِن عنها، بعد أن رأينا بأعيننا انفضاض سامر قوى الحرية عنه، وانقلاب البعض عليه ووصفهم له بالخائن، وسحبهم لكُل الألقاب التي ألقوها عليه من قبل، فقد أصبح ما بين ليلةٍ وضحاها مُجرماً خائناً بعد أن كان بطلاً مؤسساً واظبوا على شُكرِهِ في صباحهم والمساء.
غادر حمدوك بهدوء، وخرج من مُستنقعِ السياسة العكِر المُتسِخ، الذي لن يسلم من اقترب منه، وترك الملعب السياسي للبُرهان وحميدتي ورفاقهما من عُشاق السُلطة، ليلعبوا فيه وحدهم كما يحلمون، وليبحثوا فيه عن رئيس وزراء آخر ليكون طوع اشاراتهم، يجعلونه آداة في أيديهم يُنفذون بها مُخططاتهم، ويُنقذون به أنفسهم من هذه الورطة التاريخية، بعد فُقدانهم لحمدوك الذي جاءوا به لتجسير العلاقة بينهم، وبين المواطن الرافض الكاره لوجودهم، وتناسوا في غمرة فرحهم بالموافقة على مُشاركته لهُم السُلطة، أنّ الثورة ليست ملكاً لحمدوك ولا لغيره بل هي ثورة شعب، والشعب لن يُفرِط في ثورته الغالية.
لقد ذهب حمدوك مُستقيلاً من منصبٍ يسيل له اللُعاب، ويستحق عند البعض لأجل الظفر به تحمُّل المشاق والصعاب، استقال الرجُل بعد اعترافه بأنّ الكثير من الاخفاقات قد صاحبت تجربته، ولم يُكابِر رغم الخطوات الممتازة المشهودة التي خطاها نحو المُجتمع الدولي بأنّ تجربته هي الأفضل، والمُنى أن يفعل من يتوارون الأن خلف الدبابات والحاويات ما فعله حمدوك، بأنّ يُقدموا اليوم قبل الغد استقالاتهم للشعب، وأن يُسلّموا قيادة الجيش لمن لم تُلوثهم السياسة، ولمن لم تُلطخ أيديهم بدماءِ الشُهداء الطاهرة.
كلمات في حق الرجل
استضافني حمدوك في منزله بأديس أبابا، وقد بالغا هو وزوجته الفاضلة دكتورة منى عبدالله في الاحتفاء بي على مائدة رمضانية سودانية خالصة، تسامرنا بعدها وتطرقنا فيها للكثير من القضايا، وسألته عن شائعة ترشيحه لرئاسة الوزارة، فتبسّم ضاحكاً من قولي، وأجاب أنا أيضاً مثلُك أسمع، وبدأ لي عدم حرص الرجُل على المنصِب، وخرجت ولم نتقابل بعدها وقد أشفقتُ عليه من سياسة قد تعكّر صفو حياتهما، وتضع هذا الرجُل النبيل الفاضل الهادئ الكريم في مقعدٍ مُلتهب أهرقت في سبيل الجلوس عليه الدماء، وترمّلت بسببه النساء.
شكراً حمدوك وربنا يوفقك.
صحيفة الجريدة