لا تزال الحريات في السودان، تعيش المعاناة التي لا تقل عن التي عاشتها في ظل النظام السابق. وعلى الرغم من تنسم أجواء حرية التعبير وفك قبضة يد الدولة عن الإعلام في فترة محدودة من بدايات الثورة، إلا أن ارتدادات التضييق على الحريات العامة والإعلامية وممارسة العنف ضد الصحافيين والمراسلين عادت بسرعة. احتملت الصحافة في بدايات الثورة المصاعب الاقتصادية المتمثلة في مدخلات الإنتاج، على أمل أن تزول باستقرار الأوضاع السياسية، ولكن حُكم عليها باستمرار المعاناة السياسية في ظل استراتيجية الملاحقة وزيادة حدة التوتر والصدام بين السلطة والصحافيين.
وعلى الرغم من الانتقال خطوة في الحريات الدينية وحرية المرأة، إلا أن العنف الذي يزداد يوماً بعد يوم في الاحتجاجات، الذي تمارسه الأجهزة الأمنية تجاه المواطنين والصحافيين، يمكن أن يمثل ارتداداً إلى الوراء، ويُعد استهدافاً واضحاً للحريات. وعلى الرغم من الجهد الذي تبذله منظمات المجتمع المدني والإدانات الواسعة من المجتمع الدولي، إلا أنها لم تكبح هذه الممارسات، التي بدأت مظاهرها بقيام السلطات بحملات اعتقالات واسعة، وفرض رقابة على الصحافة، واعتقال الصحافيين من أماكن عملهم ومن الشارع بواسطة قوات ملثمة. وعطلت السلطات الإنترنت، لمنع التنسيق بين المتظاهرين وتناقل أخبار الحراك الشعبي.
ردة إلى النظام السابق
مهدت لاشتعال فتيل ثورة 2018، احتجاجات متفرقة سابقة نشطت خلال العشرية الأخيرة من حكومة “الإنقاذ” نتجت عن تضييق الحريات وموجات الغلاء وفساد السلطة. ويشهد السودان في العام الثالث للثورة تراجعاً مخيفاً في ما يتعلق بالحريات عموماً وعلى رأسها حرية التعبير. فلم تشفع التعديلات القانونية بهذا الخصوص، ومنها مشاريع قوانين وتعديلات مكتملة مثل رفع يد السلطة عن المواطنين. وأثار هذا المشهد حيرة المراقبين لعرقلة مسار الحريات في عهد الثورة، والتقلبات التي لازمت هذه الفترة.
وجزء من مواثيق الثورة التي قطعها شركاء الحكم في البداية، وتم التحايل عليها بعد ذلك ثم ركلها، كانت الوصول بالبلاد إلى حكومة مدنية ترسخ قيم حقوق الإنسان. ولكن نسبة لفقدان الفرد حقوقه في التعبير عن رأيه، وفقدان آخرين حياتهم في هذا الطريق، فإن التعبير الآن تحول إلى مزيج من الرغبة في الاستمرار بجسارة أو محاولات الخلاص من حالات الخوف. ربما تكون أسهمت في ذلك عوامل عدة، منها، أولاً، ثقة المكون المدني المفرطة في استمراريته وانشغاله بتوسيع نفوذه، وهو ما لم يكن مرضياً للمكون العسكري الذي وقف ضده بحسم سريع. والعامل الثاني هو أن الثورة قامت على أنقاض نظام يمارس العنف وتقييد حرية المواطنين، ويلجأ إلى حبس الصحافيين ومصادرة الصحف بعد طباعتها بتهم ملفقة في أغلبها عبارة عن تصفيات سياسية لجهات معارضة، ولم يكن الانتقال من عهد إلى آخر، في ما يتعلق بالحريات، أمراً سهلاً وباتت المطالبة بها (على مشروعيتها) وكأنها هبة تمنحها الحكومة الانتقالية أو تمنعها. واستمرت الشكوى من عدم جدية الحكومة الانتقالية في ما يتعلق بالتشريعات الخاصة بإتاحة الحريات العامة. وهو ما وُصف بأنه ردة إلى عهد النظام السابق، بينما برر آخرون ذلك بطبيعة الفترة الانتقالية وصعوبة الوصول إلى تشريعات في ظل غياب المجلس التشريعي.
ربما تكون ظاهرة الرقابة المسبقة التي كانت تمارسها أجهزة النظام السابق الأمنية قد انتهت، ولكن ما لم تُشرع قوانين الإعلام التي تؤدي إلى الإصلاح المؤسسي والحفاظ على الحق الدستوري في حرية التعبير عن الرأي وفق بيئة ومناخ جديدين، فإن الصحافة لن تصل إلى حالة من الانعتاق من قمع السلطة.
قمع متصل
تعود “حرية التعبير والإعلام” إلى الواجهة بعد العنف الذي يتعرض له الصحافيون خلال تغطياتهم الاحتجاجات والمسيرات والمواكب. وشهدت المواكب الأخيرة منذ التعديلات التي أجراها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، قمعاً ممنهجاً لا يتناسب مع سلمية المظاهرات، وأداء الإعلاميين لأدوارهم المهنية. وبات الصحافيون مع كل موكب يترقبون احتجازهم أو تقييد مهماتهم. وبينما كانت هناك قوانين مسلطة على رقاب الصحافيين في ظل النظام السابق، فإن الثورة عليها لم تزلها نهائياً، بينما انعكست الإجراءات الأخيرة بشكل مباشر على طبيعة النسق السياسي والممارسة الإعلامية والحريات، وتفاقم تأثيرها على مجمل الحياة، مع خيبة الأمل التي لازمت أداء رئيس الوزراء (المستقيل) عبد الله حمدوك الذي تميزت فترته بالضعف الذي زاد منذ خروجه من العزل، إذ كان يطغى عليه من قبل ما كان يثيره أعضاء مجلس السيادة السابقين من تفاعل صاخب بسبب ارتباطه بالتنافس والصراع السياسي.
وسط هذا العنف، يتبين أن هناك محاولات حثيثة لعسكرة الشارع وتجييش الفضاء العام واستمرار الاعتداءات الجسدية والرمزية والتنكيل بالصحافيين والمواطنين، وهذا الوضع في بدايته كان يبدو كأنه أخطاء فردية، ولكن باستمرارها وعدم محاسبة مرتكبيها، يتضح أنها تصعيد ممنهج للوصول إلى ذروة العنف. وفي اعتقاد العسكر أن هذه الوسيلة يمكن أن تحقق إحدى نتيجتين، إما الرضوخ للوضع الراهن والرضى به وعدم معارضته، أو استمرار الثورة ضده، أو أن الوصول إلى ذروة العنف ستمنح فرصة لبعض التنازل وستكون بمثابة انفراجة أمل للمواطنين تعيدهم إلى نقطة البداية وكأنهم حققوا إنجازاً، ويوصلهم إلى حالة التمني لأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه. أما على مستوى توقيت وسياق هذه العملية، فإنها تتم في فترة استقطاب مجتمعي تزيد حدته مع ازدياد حالة الخلاف السياسي بين الحكومة والأحزاب خارج المكون المدني في مجلس السيادة الانتقالي من جهة، وبين المواطنين والفصائل السياسية والتنفيذية من جهة أخرى.
إصلاح الأجهزة أم النظام؟
نادت جهات عدة بإجراء إصلاحات داخل المؤسسة الأمنية وفق رؤية جديدة تتخلص من نهج النظام السابق، وأُشير إليها في الوثيقة الدستورية، إلا أنها لم تُفعل. فما يواجهه المواطنون هو اتجاه سريع إلى عسكرة النظام السياسي بتكريس الوضعية الاستثنائية للجهات الأمنية باعتبارها دولة فوق الدولة. ومع حالة الإنكار من قادة الجيش، فإن الترتيبات الحالية في حالة استقالة حمدوك ستفتح مدخلاً واسعاً لتحقيق هذا الهدف.
تتحمل الأحزاب والقوى السياسية المسؤولية التاريخية عن تمدد المكون العسكري. وذلك نتيجة لفشل بعض المنضوية داخل جسم موحد هو “قوى إعلان الحرية والتغيير”، في التوافق على حلول جذرية. وكذلك عدم ممارستها معارضة مسؤولة وهي خارج هذه القوى.
ومع وجود فرضية أنه يمكن إجبار السلطة على تقديم تنازلات سياسية، إثر تواصل هذا الحِراك لفتح الطريق نحو مسارات تضمن الحريات العامة، فإننا نجد أن الأحزاب هي من كان يتمسك بأنه لا يمكن إجراء الانتخابات للوصول إلى الديمقراطية. ما لم يتم الوصول إلى حالة من النضج السياسي وتمديد الفترة الانتقالية للوصول إلى هذه النتيجة.
تُظهر هذه الممارسات هاجس المكون العسكري من ازدياد منسوب حرية الرأي والتعبير، وفاعلية الصحافة بوصفها المدخل الأساس لتفعيل الحقوق الأخرى، فعمدت إلى وسائل مباشرة بممارسة العنف، وعدم منح تصاريح لفعاليات عديدة. وأخرى غير مباشرة بتجميد التشريعات الخاصة بحرية التعبير.
لا تكفي المناداة بإصلاح الأجهزة الأمنية وحدها، إذ إن الإصرار على تفعيل قانون يحمي حرية التعبير عن الرأي من الانتهاك، يجيء على رأس الأولويات التي يجب أن تكون في مقدمة متطلبات وأهداف الثورة، التي سعت إلى طي صفحة النظام السابق، بينما بقيت آثاره. وقد لا تكفي روح التحدي وحدها لدى الشعب السوداني وحماسة الثوار الذين لا يتوانون عن مجابهة الأجهزة الأمنية، ما خلف عدداً من الضحايا والجرحى.
البحث عن مخرج
للبحث عن مخرج من هذا الوضع، لا بد من أخذ الأحزاب السياسية موقفاً أوضح وأكثر فاعلية من موقفها الحالي، وتطالب بتفعيل القوانين التي تتيح الحريات وتكبح جماح العنف السياسي ضد المدنيين. وبهذه المطالبة يمكن أن تتشكل خريطة حزبية جديدة بأن يعتمد كل حزب على قاعدته الاجتماعية من داخل المجلس التشريعي بدلاً من التوسع الأفقي والدمج بين الأحزاب في بوتقة “قوى الحرية والتغيير” أو أي تنظيمات أخرى مشابهة، ما خلق خلافات في أساس التنظيم نفسه.
تعكس الأحداث الأخيرة، لا سيما التضييق على الحريات، العودة إلى نقطة الصفر. وقد كان يُظن أن تناول مسألة حرية التعبير عن الرأي بات مفصولاً عن حالات الاختناق السياسي والمضيقة المعيشية، وأن الجوانب السياسية وحدها هي سبب الأزمة. ويقع على عاتق الصحافة أيضاً أن تكون أكثر استقلالية وشفافية في مواجهة التحديات الحقيقية، فخلال الانفراجة النسبية من الحريات في بدايات الثورة كادت أن تسقط في براثن الصراعات السياسية. وفي ظل هذه الأزمة يمكن أن يكون السعي نحو إبراز دور الصحافة في زمن الاضطرابات السياسية والثورات
صحيفة السوداني