جعفر عباس
عندما كان برايان دايسن الرئيس التنفيذي لشركة كوكا كولا العملاقة، ألقى في اجتماع مع آلاف العاملين في الشركة كلمة قال فيها: اعتبروا الحياة لعبة. كل واحد منا يتقاذف فيها خمس كرات في الهواء (كما يفعل الحاوي)، وتلك الكرات هي العمل والعائلة والصحة والأصدقاء والروح، ومهما تكن ماهرا في قذف تلك الكرات والتقاطها فمن المرجح أن واحدة او أكثر منها قد تسقط، وستنتبه إلى ان كرة العمل مطاطية، إذا سقمن يدك ترتطم بالأرض ثم ترتد إليك فتستأنف قذفها والتقاطها، في حين ان الكرات الأربع الأخرى زجاجية، وإذا سقطت إحداهن فستصاب بخدوش او تتكسر تماما.
ما أراد دايسن تنبيه العمال إليه، هو ان العمل “يروح ويجيء”، أنت اليوم في مصنع عطور وبعد سنة قد تكون في قسم المجاري في البلدية، وأينما كنت قد تنال ترقية او تنتقل الى إدارة أخرى، وتكتسب مهارات جديدة، قد تجعلك تستغني عن العمل كأجير وتنشئ عملا او مشروعا خاصا بك.. والمطلوب منك في كل الحالات ان تعمل بكفاءة وإخلاص، وبعد انتهاء الدوام عليك ترك العمل وراء ظهرك، لتعطي بقية وقتك للعائلة والأصدقاء و……. “الراحة” الجسدية والنفسية وبدونهما لا تتحقق الراحة “الروحية”
آآآآآخ لو تسنى لي الاطلاع على أفكار برايان دايسن هذه قبل عشرين سنة، عندما كان جُل همي هو إثبات وجودي في مجالات العمل، وكنت بالتالي اصطحب العمل معي الى البيت، وكنت أقوم بالترجمة في وقتي الخاص لزيادة دخلي. ولم يكن ذلك يضايق زوجتي في بادئ الأمر، ولكن مع قدوم المولود الثاني لم يعد بمقدورها توزيع الوقت والحنان والرعاية على طفلين وهو تقوم بأعباء البيت. ومع كثرة أعبائي لم تعد لها حياة اجتماعية، فلا وقت لي لاصطحابها لزيارة قريبة او صديقة. وكنت في ذات سنة أترجم كتابا ضخما عن صناعة النفط في منطقة الخليج وكان عمر بنتي عبير وقتها نحو 18 شهرا وكانت وبانتظام تجلس قربي على الطاولة، وانا اترجم ثم تنام على كرسي في وضع معوج. وذات ليلة ما أن أحسست أن رأسها سيسقط من فرط النعاس حتى وضعت ماء في فمي و”بخخخخ” في وجهها فانتفضت مذعورة ثم مسرورة للمداعبة وناديت على أخيها الأكبر غسان وأجلستهما على الطاولة وقلت لهما: اريد منكما تمزيق كل هذه الأوراق ومن ينجح في صنع أكبر كرة ورق له جائزة، وقام ثلاثتنا بالفتك بصناعة النفط في الخليج ومنذ يومها لم أقبل القيام بأي ترجمة تجارية نظير مقابل نقدي في وقتي الخاص
بل هجرت الصحافة المكتوبة لأنها سرقت من وقتي مع العائلة والأصدقاء لأنها تتطلب السهر والعودة الى البيت فجرا، لأنام في نحو الخامسة فجرا ويصحو العيال في نحو السادسة للذهاب الى المدارس وبهذا كانت قد تمر أربعة أيام دون ان التقي بهم. وما زلت أحرص على إتقان عملي والتفاني فيه ولكن مهما كان العائد المالي للعمل الذي أؤديه فإنني لن أتردد في تركه إذا كان خصما على علاقاتي العائلية والاجتماعية وعلى حساب راحتي النفسية والجسدية، وأحسب أنني كسبت الكثير من وجودي المنتظم في حياة عيالي كصديق وحبيب مع عدم التنازل من سلطات الأبوة الديكتاتورية. فهناك أمور في التنشئة والتربية لا تخضع للنقاش الديمقراطي، ويجب ان يعرف العيال منذ سن مبكرة ان “لا يعني لا”، وأن “لا” جملة مفيدة، بشرط ألا يمسِّخها الوالدان بكثرة الاستخدام
جعفر عباس