أسامة سيداحمد: حزن الأثير

في منتصف ثمانينات القرن الماضي زار الزومة وفد إذاعي رفيع، سجل بالصوت نبض الحياة هناك.. حياة بسيطة لكنها غنية و لها طعم و لونها مختلف أيضا.. سجل الوفد الإذاعي برامج غنية في كل شيء، و وهبها للأثير..
(الرادي) هناك يقف في محطة اهتمام شاهقة، وله مقام رفيع، كان الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم..
نقل حبهم لبلدهم، إذ هو بمثابة الوطن عندهم، و ساح معهم في سوق الجمعة و سوق الاتنين تحت الرواكيب الصغيرة، السوق تجاوز عمره 100 عام، و لم يتغير شكله ولا نكهة مرتاديه وفريشته، ولا لقاءات الشباب و زعماء القوم و الشعراء و نجوم فريق الزومة العريق، هو إذن ساحة لعرض بضاعة بكل السماحة والود والضحك أيضاً، يضحكون ويحتفظون بأوجاعهم، الزومة يكتسيها الفقر في كل شيء إلا إنسانها، فهو الغنى بعينه، تعاقبت حكومات كثيرة ولم تعر اهتماما بتنمية المنطقة وما جاورها، لا زالوا يبحثون عن العلاج في الخرطوم إذا مرض أحدهم، و يدرس أبناؤهم في المنافي والأصقاع البعيدة، ولم يعد العائد السنوي للتمور يغطى ربع تكاليف الحياة الأدنى!! لكنهم يتشبثون بأرضهم ويحبونها ويحتفطون بسرها ..
في مدرسة الزومة الابتدائية كنا نواظب على حضور تمارين فريق الكرة، إذ كان حينها يصول ويجول ممثلا لمنطقته في دوري السودان، كان زاهيا بنجوم لم تلتفت إليهم كاميرات، حسن ابشنب، المرحوم حيدر أحمد طه، عبدالله كرار، إبراهيم، عادل، الصيني، التاج وداعة، إبراهيم عبد الحفيظ، على وداعة، المجروس.. مثالاً لا حصرا..
أراد الوفد الإذاعي تسجيل حلقة خاصة مع أسرة نادي الزومة بعد صلاة المغرب، قررت دون تفكير حضور تسجيل هذه الحلقة، بعد أن حضرت تمرين النادي.. كانت هناك معضلة لم أعرها كثير اهتمام، لكنها تسببت في أزمة بعد ساعات! وهي أن لا أحد يعرف مكاني، و لا تتوفر أى وسيلة اتصال! ولا أحد منا تعود التأخير حتى منتصف الليل.. بدأ تسجيل الحلقة الاذاعية ودار حديث كثير ومثير، وضحك الناس و سارت بينهم فكاهة وثقافة وغناء وبعض من تاريخ المنطقة، أتذكر جيدا حضور عمنا المرحوم إبراهيم الزومة والفنان المرحوم حسن علي الحاج الذي لا أستعيد ملامحه جيدا، وقد غنى حينها: أنزلي من فروعك مرة
للساسق فتر
يا قمرية مافي عدالة
لي زولا صبر..
وأعتقد عمنا عباس الهادي رئيس نادي الزومة والأستاذ وقيع الله سكرتير النادي، وآخرين.. دخل الليل وامتدت ساعات التسجيل و غلبني النعاس، وكان جلوسنا أرضا في حلقة دائرية واسعة، المكان يبدو مظلما او إضاءته غير كافية، وجهاز التسجيل بنوره الأحمر هو سيد المكان، متوهطا الوسط على طربيزة خشب متوسطة الحجم، غير آبه بما أنا فيه من مأزق! الآن تواجهني مشكلة! كيف أعود إلى البيت في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ قاطعا – وحدي – خور ود الريف مرورا بالمقابر وخور الخليفة وبيت عويشة!
لكن ما هو مؤكد أنني استمتعت بليلة استثنائية جميلة في الهواء الطلق، تحت الصهريج اللا فوق من المدرسة الثانوية بنات، المستشفى حاليآ.. انتظرت مضطراً حتى انفضاف السامر، لأجد أحدا أتأبطه (ساكن على جيهتنا ديك) حسن أبشنب وشخص آخر لا اتذكره، مشيت معاهم ولقيت أمي الله يديها العافية واقفة في الشارع نص الليل، مرتعبة، و جندت جيشا للبحث عني في عدة اتجاهات، بما فيها جب النيل!! لا أتذكر جيدا كيف كانت ردة الفعل الأولى عند وصولي البيت بالسلامة، لكن أتذكر أن تجمعا من الناس حاشد كان أمام منزلنا، بما ينبئ أن أمرا جلل يحدث الآن، وسرعان ما اكتشفت أني كنت في عداد المفقودين، جرى البحث عني لساعات، وأدخلت الهلع في أهلي، و قلب أمي..
إذ كنت طفلا..
كان الفريق الإذاعي الزائر الفخيم يتشكل من عبد المطلب الفحل و عبد الدائم عمر الحسن، نسمع صوتهما و لا نراهما، كانت المرة الأولى أشاهد فيها ود الفحل، وكنت معجبا بثقافته و طريقة تقديمه البسيطة، فضلاً عن تفاعله المحبب مع جمهوره في برامج البث المباشر، أبدع في تقديم تاريخ السودان في قالب كوميدي خفيف و محبب، سيفتقده (ود الضهبان) و (أستاذ عمر) وطلابه و زملاؤه و وطنه الصغير الزومة، و وطنه الكبير السودان.. نسأل الله له الرحمة والمغفرة وحسن القبول والفردوس الأعلى من الجنة.. و اغفر لنا و ولوالدينا حين نصير إليه.

أسامة سيداحمد

Exit mobile version