بالأمس قلنا إن أقرب و أسرع وأفضل الطرق للجميع؛ لتحقيق مدنية الدولة، ولإجبار الجيش وقيادته للعودة للثكنات و الانصراف بالكامل لأداء أدوارهم المهمة جداً في الأوقات والظروف الطبيعية، والمتمثلة في حفظ سلامة ووحدة والبلاد من العدو الخارجي، وللخروج من المأزق الحالي؛ هو الركض ركضاً نحو توافق بين المكونات المدنية على الحد الأدنى من (قواعد اللعبة السياسية) التي تكفي لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة تقود لتحقيق هدفين أساسيين وضروريين للتقدم للأمام في طريق الإصلاح والنهضة، أولهما إبعاد العسكر عن الساحة السياسية تماماً، و ثانيهما فض الاشتباك والتشاكس بين المكونات المدنية التي يدعي كل منها وصلاً بليلى الشعب و يدعي تمثيله له ،، فالانتخابات سوف تعطي التفويض الشعبي لمن يستحقه ليقود البلاد بدلاً عن تشاكس ما يسمى بالحاضنة السياسية التائهة التي تتنازع في ما بينها صباح مساء .
ونحاول هنا تحليل الأسباب التي جعلت من التوجه لصناديق الانتخابات أولوية متأخرة جداً في برنامج غالب القوى السياسية وبعض القوى العسكرية، فالقوى المدنية المتمثلة في الأحزاب لم يرحب أحد منها صراحةً بالمضي نحو الانتخابات باستثناء حزب الأمة الذي قال – على استحياء على لسان نائبة رئيسه مريم الصادق – إنه ( لا يمانع بالمضي لانتخابات مبكرة إذا توفرت شروط نزاهتها)، و المكون العسكري برغم أنه دعا كثيراً للتفكير في انتخابات مبكرة وحدد لها بقرارات 25 أكتوبر أن تكون في يوليو من العام 2021م، إلا أن بعض قياداته ومكوناته ترى أن قيام انتخابات يتكون على إثرها مجلس تشريعي مدني مفوض شعبياً سيهدد كثيراً وضعه المميز الحالي و سيفقده أهم مراكز قوته الأساسية كشريك مباشر في اتخاذ القرار السياسي بالدولة، وأن مناداة المكون العسكري بالانتخابات بدأت كأنها أداة ضغط يخيف بها المكون المدني، الذي يعلم أنه لا يرغب في الذهاب لصناديق الانتخابات.
أحزاب المكون المدني والحاضنة السياسية للحكومتين السابقتين والتي تقاتل الآن لتعود ضمن حكومة الثورة الثالثة ، والتي ظلت تحكم البلاد فعلياً خلال الأعوام السابقة لسقوط النظام تبدي تحفظاتها على الذهاب للانتخابات في ثلاث نقاط أساسية، أولها أنها تخشى من تنظيم انتخابات لا تتوفر فيها شروط النزاهة اللازمة في ظل سيادة نفوذ المكون العسكري على الدولة!!، وهي هواجس ضعيفة لا تقف على ساق منطق أو موضوعية، حيث أنه كان من الممكن للحكومتين السابقتين أو حاضنتهما السياسية أن تشرعا في تكوين مفوضية الانتخابات المدنية ممن تثق فيهم أو من بين عضويتها وأن تضع قانون الانتخابات بما يحقق النزاهة المطلوبة، و أن تضمن ذلك أيضاً برقابة إقليمية و دولية، وهي التي أتت بالرقابة ووصاية الخبرات الدولية على كامل الفترة الانتقالية !! و ثاني ما بررت به الأحزاب تحفظها على الانتخابات هو رغبتها في تحقيق السلام قبل الانتخابات، وبعد توقيع اتفاق السلام مع الجبهة الثورية التي تضم غالب الحركات المسلحة؛ انتفى هذا التحفظ و إن ظلت حركتا عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو خارج سور الاتفاقية، ف (ما لا يُدرك كله لا يُترك جله )، بل إن الحاضنة السياسية الرباعية للحكومة شرعت في مخاشنة و مناطحة شركاء السلام الذين بررت تأجيل الانتخابات بانتظارهم حتى وصلوا مرحلة الشقاق التام!! أما أغرب تبريراتها لرفضها الذهاب للانتخابات هو قولها بضرورة تفكيك دولة النظام السابق وحزبه خوفاً من عودة رموز النظام السابق وحزبه عبر الانتخابات ! وللمراقب أن يتساءل: كيف لحزب تم حله ومصادرة دوره وممتلكاته، كما تم منعه من ممارسة العمل السياسي كلياً ويقبع غالب قادته في السجون أو القبور، كيف له أن يتسلل إلى صناديق الانتخابات التي ستنظمها حكومة متفق عليها بين القوى المدنية عن طريق مفوضية انتخابات كونتها هذه الأحزاب نفسها وبقانون انتخابات وضعته ذات هذه الأحزاب وبوسائل تخضع بالكامل لرقابتها ورقابة الشركاء الإقليميين و الدوليين!؟
يبدو للناظر الحصيف أن الأحزاب التي صعدت على دفة قيادة الدولة بعد الثورة قد استغلت غياب قيادات وطنية مستقلة لكتل الشارع العريض الذي قاد الثورة وقدم فيها التضحيات ، فتقدمت لقطف ثمار الثورة، واستمرأت إدارة شأن الدولة وحدها بتحشيد الزخم الثوري و تجييره لصالحها دون وجه حق، وهي تعلم أن ثقلها الجماهيري – إن ذهبت لانتخابات نزيهة – لن يخولها تفويضاً تكسب به المكاسب السياسية التي نالتها دون انتخابات، والتاريخ يثبت أن غالب الأحزاب التي سيطرت على دفة قيادة البلاد بعد الثورة، وحازت عدداً من مقاعد مجلس الوزراء و المواقع الدستورية في حكومتيها، وبسطت السيطرة على مفاصل الخدمة المدنية لم تتشرف يوماً بتفويض الشعب لها ولو بدخول نائب واحد ينتمي إليها لبرلمانات السودان عبر صنادبق انتخابات!! وأن بعضها حاز مقاعد تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، فكيف لها أن تذهب للانتخابات؟
لا خلاص للبلاد إلا بتسليم السلطة لحكومة مدنية كاملة الدسم ذات تفويض شعبي عبر انتخابات، وإن أراد الثوار الحقيقيون استكمال ثورتهم؛ فما لهم من سبيل سوى الضغط على كلا المكونين – العسكري والمدني – نحو صناديق الانتخابات، ولقوى الثورة الحقيقية أن تنظم نفسها لحجز مواقعها في قيادة مؤسسات الدولة التي تحلم بها.
أماني ايلا
صحيفة اليوم التالي