(1)
لا أزعم أن علاقاتي جيدة بالإذاعة ولا أدعي شرف (إدمان) الاستماع للإذاعة ، لكن أحسب أننا من جيل (الإذاعة) عندهم جزء أساسي من البرنامج اليومي ومن (قفة الملاح) و(صينية الغداء) و(شاي الصباح والمغرب). الإذاعة مكون عظيم للوجدان السوداني الذي تشكّل بمسلسلات الإذاعة ومكي سنادة وهاشم صديق والهادي صديق وتحية زروق وعوض صديق وعالم الرياضة وإيقاع الحياة ودكان ود البصير وعلى الخط وما يطلبه المستمعون ومن ربوع السودان ودراسات في القرآن الكريم.
لم يكن لنا سبيل للمعلومة والخبر الرياضي غير برنامج (عالم الرياضة) نترقبه (مراقبة المشوق المستهام).
الكثير من برامج الإذاعة ارتبطت عندنا بآبائنا وأمهاتنا ،لهذا حظيت بقدر كبير من الاحترام والتقدير، كنا نتأدب إذا دقت الساعة وأعلنت إذاعة أم درمان عن الثالثة ونشرة ثلاثة.
أتذكر أمي بفستانها الأخضر وهي تدلف إلى مطبخها والإذاعة تقدم فاصلاً غنائياً – ولا أنسى أبي حينما تريد أن تطلب منه شيئاً – أفعل ذلك عندما يهجع للإذاعة – لا يحب المفاصلات عندما يستمع لإذاعة أم درمان.
كان للإذاعة طعم ولنشرات الأخبار مكانتها ووقارها حتى في نشرات الوفيات التي يتابعها الكبار عند التاسعة – نشرة الوفيات ربطت بين كل أبناء السودان – إذا رحل أحد في كسلا تداعت له الدامر بالحزن والوجع والدمع.
كنا ننتظر برنامج (ما يطلبه المستمعون) ونتوقع أغنياته والإهداءات المصاحبة للأغنية… وكانت الإذاعة عندما تنتقل لنقل مباراة خارجية للهلال ينتقل معها قلبنا قبل أذاننا.
كان برنامج (ركن الأطفال) يوم الجمعة بمعلوماته وطرائفه والفكي عبدالرحمن الذي يدخل قلوبنا قبل أن يدخل بيوتنا.
هل منكم من يمكن أن ينسى المعلم عبدالعزيز عبداللطيف رحمة الله عليه ويوسف عبد القادر العلامة الذي بدأ كبيراً؟
في طفولتنا (الراديو) الذي يضع على (الشباك) حيناً وعلى (الفضية) أحياناً أخرى.
كنا نبدأ صباحاتنا به وننوم على صوته.
أعتقد أن (الراديو) منذ أن فقد مكانه فقدنا ثقافتنا وهويتنا وتم استلابنا بدواعي العولمة والانفتاح والعالم الذي أضحى قرية.
(2)
أمس عندما قرأت خبر رحيل عبدالمطلب الفحل تذكرت السباق الذي كن يقمن به نساء حلتنا للحاق ببرنامج (على الخط) – كان هذا البرنامج يشكل هوساً له يستمعن إليه ويتفاعلن معه قبل أن نعرف ثقافة (التفاعل) الذي أفرزته حديثاً مواقع التواصل الاجتماعي.
كان لعبد المطلب الفحل أسلوب يجعل المعلومة (شعبية) – يقدمها لك لتستقر في الجوف والذاكرة ولتبقى– كل المعلومات التي يقدمها الفحل كانت لا تنسى. كان له طريقته الخالية من التعالي أو التباهي – يفعل ذلك في عفوية وبساطة وهو العالم باللغة والدين والفقه والتراث.
كان سودانياً أكثر منّا كلنا – تشعر بعظمة ذلك في كل برامجه وهو يعتز بهذا الوطن ويقدم ثقافته لتجابه الثقافات الأخرى وتتغلب عليها.
دكان ود البصير هذا البرنامج الوطني والتاريخي – قام بما لم يقم به الإعلام كله.
جلسنا معهم في دكانتهم وتشرّبنا أدبهم وصرنا جزءاً منهم.
هذه قدرات وإمكانيات لا يمتلكها غير عبد المطلب الفحل الرجل الذي إذا حدثك عن أي شيء حدثك بمعلومة ومرجعية وتاريخ وأبعاد لا حصر لها ولا عدد.
ضليع في الحديث وأدب المديح وخبير بالتاريخ والفن السوداني والتراث والأسماء والأنساب هو حاضر في كل ما يحدثك عنه بمرجعية ومعلومة لا تخيب.
مرة تشرفت بأني كنت معه ضيفاً في قناة النيل الأزرق في برنامج (مساء الجمعة) وجدت أن جهلي في أمور تخصني ومن صميم اختصاصي أعلى من جهلي باللغة الصينية – قدم معلوماته أو محاضرته دون أن يشعر أحد بالحرج فقد كان لطيفاً في المعلومات التي يقدمها حتى تحسب أن المعلومة التي يقدمها لك تقدمها أنت إليه.
عبدالمطلب الفحل مدرسة في البرامج الإذاعية المختصة بالمعلومات والثقافة العامة – يعز علينا أننا لم نعرف قيمة ما كان يقدمه إلّا بعد رحيله عنّا.
لقد محا عبدالمطلب الفحل (أميتنا الثقافية) وكان أفضل من يمكن أن يصل للبسطاء والعامة وأمهر من يخاطبهم ويملّكهم المعلومة.
(3)
لولا أن ثورة ديسمبر المجيدة أعادت لنا الثقة في الجيل الجديد – لقلنا إن من فقدناهم في السنوات الأخيرة لا يمكن تعويضهم وإن الوطن بعد رحيل أولئك الرموز في مجالات مختلفة سوف يكون خاوياً على عروشه.
تكاد الأفئدة أن تكون أفرغ من فؤاد أم موسى.
من الصعب تعويض رموز أمثال عبدالكريم الكابلي وعبدالمطلب الفحل – هؤلاء الرموز لولا أن سيرتهم باقية لأصابنا القحط.
سوف يبقى عبد المطلب الفحل بهذه السيرة والعلوم والثقافة التي تركها فينا.
سنحمل له الود ونرد له الدين بالدعاء له في كل حين ونسأل الله أن يسكنه مع النبيين والشهداء والصديقين.
اللهم تقبله قبولاً حسناً فقد كان حسناً بيننا.
ولا حولا ولا قوة إلّا بالله.
(4)
بغم /
افتقدت كتابات حسين خوجلي في مثل هذه الرثاءات فقد كنا نعزي أنفسنا بها.
صحيفة الانتباهة