في الذكرى الثالثة لثورة السودان

د. الشفيع خضر سعيد
في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، ولما كان واقع السودان يعيش الفاقة والفقر والعطالة وتفاقم التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي وإنسداد الأفق، وهو في قبضة الانقاذ، نظام تحالف الفساد والاستبداد، خرج شباب السودان إلى شوارع وساحات التغيير، رافضين أن يرهنوا حاضرهم ومستقبلهم لخيارات البحث عن المنافي أو المخدرات، ومعلنين، كما أشرنا من قبل، أن ثورتهم ليست مجرد انتفاضة جياع، ولا ترتبط بأهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل بأكمله، هبّ ليحطم جدارا شيدته الانقاذ حاجزا يسد أمامهم الأفق والأمل في المستقبل.
ظلوا في الشوارع لعدة شهور حتى تحققت بدايات الحلم الكبير، وانتصر شعار «تسقط بس» في الإطاحة بالغطاء السياسي الحاكم، لكن دون أن يمس ما هو تحت ذاك الغطاء، والذي ظل، وحتى اليوم، يسعى لإجهاض الثورة. وفي 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، الذكرى الأولى للثورة المجيدة، خرج مئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب السوداني مرة أخرى إلى الشوارع، لا للإحتفاء بالذكرى وحسب، وإنما في ذات الوقت للرد على محاولات التخذيل والنيل من الثورة، بعد أن شهدت الخرطوم مظاهرات أنصار النظام البائد المعادية للثورة والحكومة الانتقالية، وتأكيدا على استمرارية الثورة حتى تحقق أهدافها في الحرية والسلام والعدالة، وتجديدا للثقة في الحكومة الانتقالية، أو مدا لحبال الصبر لها، حتى تنجز.
وفي 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، الذكرى الثانية لاندلاع الثورة، خرج ذات الشباب إلى الشوارع، ليؤكدوا، مرة أخرى، أن خروجهم ليس انتصارا لهذا الحزب أو ذاك القائد، وليس تعصبا لهذه الأيديولوجية أو تلك الفكرة، وقطعا ليس طمعا في كراسي الحكم أو وظيفة ما، علما بأن جلّهم بدون عمل أو وظيفة، أمتلأت بهم الشوارع والساحات، عناقا وهتافا، لا فرحا بذكرى الثورة، وإنما غضبا وإشهارا بأن الكيل قد طفح، وأن الفرحة تذوي وهم يشهدون أحلامهم وآمالهم تُخنق بين أرجل قيادات الفترة الانتقالية الذين توسموا فيهم المعرفة والحكمة والتشبع بروح الثورة، في حين هؤلاء كانوا يتصرفون، وكأن الثورة لم تمر أمام أعينهم، ناهيك أن تمس أوتار أحاسيسهم.
ويومها كتبنا: «لا شيء يهزم الإحباط ويُشرع نوافذ الأمل للسير بالثورة حتى تحقق أهدافها، غير إرادة جماهيرية قوية تتلمس طريقها عبر حراك متماسك ومنتظم في مركز واحد، وعلى خطى قيادة واعية، تطرح شعارات واقعية محددة وموحدة، تخطط وتعبئ، بعيدا عن توافه الأمور ومناصبة العداء مع رفاق الخندق الواحد». وكتبنا أيضا: «لا بديل سوى الضغط الشعبي، الواعي وليس الطائش، الضغط الذي يسير على هُدى بوصلة تشير فقط إلى مصلحة الوطن وليس إلى خدمة أهداف هذا الحزب أو أجندة تلك المجموعة، وذلك لوضع الأمور في نصابها، ومن أجل أن نقف جميعا وقفة حاسمة، ننشط خلالها ذاكرتنا المتصلة ونقويها، حتى لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتضعها في الحسبان، من أجل التركيز على أولويات مهام الفترة الانتقالية، ومن أجل وقف النزيف اليومي في البحث عن لقمة العيش والحقوق الضائعة في وطن مرهق، بعيدا عن التدليس ولعبة الاستغماية التي كان يلعبها النظام البائد طوال ما يقرب من نصف عمر استقلال بلادنا، وبعيدا عن ما يمارسه اليوم، البعض ممن لا ذاكرة له، من الاستمرار في ذات اللعبة».

واليوم، هلّت الذكرى الثالثة للثورة، والبلاد تعصف بها أزمة طاحنة دفعت بها إلى حافة الهاوية. فقد وصلت العلاقة بين جماهير الثورة وقيادة الفترة الانتقالية إلى أسوأ حالاتها. وإنعدام الثقة صار هو الحاكم لهذه العلاقة، خاصة بعد إجراءات الخامس والعشرين من إكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي جاءت بمثابة صبّ الزَّيْتَ عَلَى النَّار.
نحن نسطّر هذا المقال قبل يوم من خروج الجماهير إلى الشوارع في الموعد المضروب والذي جرى الشحن والتعبئة والتحضير له منذ فترة، ولذلك لا ندري ماهي مآلات هذا الخروج الكبير، ولكن كل الخيارات والسيناريوهات محتملة، وستكون متضحة عندما يصل المقال إلى القارئ. لذلك، نكتفي بما سطرناه سابقا وقلنا فيه، يمكننا أن نختلف حول ما هي أنجع السبل وأفضل الخيارات للخروج من الوضع المتأزم والخطير الذي تعاني منه بلادنا اليوم، ولكن، لا أعتقد أننا سنختلف حول أن أفضل الخيارات هو الذي يجمع ما بين التصدي المباشرة لجوهر الأزمة، والكلفة الأقل التي تقي الوطن شر السقوط في مستنقع الحرب الأهلية الدموي والمدمر للوطن. وإن تبني هذا الخيار أو ذاك ليتبوأ موقع الأفضل، تفرضه جملة من العوامل الموضوعية والذاتية بعيدا عن الرغائبية ومجرد الأمنيات. وأعتقد أن من ضمن العوامل الرئيسية التي تلعب دورا في رسم الخيارات الأفضل وتبنيها، تفاصيل المشهد الراهن في واقع البلاد، والتي من بينها: الحرب التي تدور رحاها الآن في دارفور وإمكانية إنتقالها لتعم باقي أنحاء البلاد، خاصة وأن الأطراف المتنازعة متواجدة، وبكامل عتادها وسلاحها، في كل هذه الأنحاء. التوتر المتصاعد في شرق البلاد في ظل التعقيدات الداخلية والخارجية المتمكنة من الإقليم والتي تجعل من هذه التوترات مفتوحة على كل الاحتمالات.
حقيقة أن البلاد، وخاصة عاصمتها الخرطوم، صارت مدججة بالسلاح في أيدي عدة جيوش، وليس الجيش السوداني وحده، وهي جيوش متحفزة ولن تظل صامتة تجاه محاولات التغيير ما دام هذا التغيير سيؤثر على أوضاعها. استمرار التشظي في أوساط الحركة السياسية والتباينات الواضحة في خطابها السياسي، وحتى التنظيمات التي حسمت الكثير من تلك التباينات في اتجاه توحيد الخطاب السياسي، فإنها لاتزال تتلمس الخطى لصياغة وتبني خط سياسي وخطوات عملية في مواجهة الأزمة المتصاعدة. تفاقم الأوضاع المعيشية المتردية في ظل توقف البرنامج الاقتصادي بعد إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول. ونحن نرسم خياراتنا للخروج من الأزمة، يجب علينا ألا نتجاهل هذه العوامل وآثارها الكارثية، وإلا سنقفز ومعنا الوطن في الظلام.

صحيفة القدس العربي

Exit mobile version