:: ومن المحن الموروثة، بلادنا في قائمة الدول الأعلى إنتاجاً للمواشي، ولكن لسوء الإدارة والفساد، فإن العائد للشعب من إنتاج وصادر الماشية لا يتناسب مع حجم الإنتاج، وهذا ما يحدث للذهب أيضاً.. فالشاهد أن بلادنا تحتل المركز رقم (15)، على مستوى العالم في إنتاج الذهب، ولكن بلا جدوى، بحيث أن العائد للشعب مثقال ذرة مقارنة بحجم الإنتاج.. قبل حكومة الثورة، كان بنك السودان يتسبب في تهريب الذهب، وبعد حكومة الثورة حلت الشركة السودانية للموارد المعدنية محل بنك السودان..!!
:: نعم، منذ عقود، ظل بنك السودان يحتكر صادر الذهب حتى سقط نظام البشير.. البلاد لم تستفد من احتكار بنك السودان لسوق الذهب غير (التضخم)، وانخفاض عائد الصادر وارتفاع حجم التهريب، وهذا شيء طبيعي.. من ينظر لتجارب الآخرين يجد فائدة البلاد الاقتصادية في سياسة التحرير، أي في توفير مناخ المنافسة للمصارف والشركات لتنافس بعضها في الإنتاج، ثم تنافس بعضها بالجودة والسعر، في كل السلع، وليس الذهب فقط..!!
:: وقبل عقود الاحتكار، كانت هناك (13 شركة وطنية)، تعمل في سوق الذهب بمنافسة شريفة وعبر قنوات الدولة الرسمية وتحت سمع وبصر القوانين والأجهزة الرقابية.. وكانت هذه الشركات تورد عائد الصادر إلى البلد قبل تصدير الذهب، وهذا ما كان يسمى بنظام الدفع المقدم.. كانت الشركات تورد عائد الصادر (أولاً)، ثم تشتري الذهب من شركات التنقيب والأهالي بالمنافسة ذات الفائدة للمنتج، ثم تصدره بعد سداد ما عليها من رسوم وضرائب.. ولم يكن هناك تهريباً..!!
:: بعد الثورة، استبشر الجميع خيراً بقرار فك احتكار بنك السودان لصادر الذهب.. وبعد فك الاحتكار، أذكر تصريحاً لعبد المنعم الصديق، وكان رئيساً لشعبة مصدري الذهب، حيث قال إن الشعبة آلت على نفسها العمل بإرجاع صادر الذهب إلى الشركات تجنباً لتهريبه إلى الخارج، وأن الفترة الماضية شهدت إهداراً للموارد، ثم تعهد: (بعد اليوم لن نسمح بتهريب جرام واحد).. وليس فقط بسعره الذي يشجع المواطن على التهريب، ولكن بسياسة الاحتكار، فقدت البلاد الكثير من عائد الذهب..!!
:: ولكن المؤسف، قبل أن يتنفس قطاع المعادن الصعداء بعد فك احتكار بنك السودان، فرضت الحكومة – عبر الشركة السودانية للمعادن – رسماً آخر مقداره (ألف جنيه) على الجرام، لتصبح جملة الرسوم (1.400 جنيه)، هذا غير رسوم التراخيص وغيرها، بحيث تساوي كافة الرسوم الحكومية ما قيمتها (53%).. وبالمناسبة، من يُهربون الذهب لا يفعلون ذلك إلا ليتهربوا من دفع الرسم الجديد (ألف جنيه)، ولو دفعوه لخسروا، وكل التقارير بطرف وزير المالية الذي لا يحرك ساكناً..!!
:: وعليه، بدلاً عن إهدار الزمن والجهد والمال في مكافحة التهريب، يجب مكافحة أسباب التهريب.. وذلك بتوفير مناخ المنافسة للمصارف والشركات، لتنافس بعضها في عمليات التمويل والبيع والشراء بكل شفافية، وتحت سمع وبصر سلطات الدولة.. فالمنافسة الشريفة في البيع والشراء هي النار التي تحرق تهريب كل المنتجات، بما فيها الذهب.. كما أن المنتج ليس بساذج ليصطلي بهجير الفيافي ثم يبيع ذهبه بسعر زهيد، فإن المصدر أيضاً ليس بمتطوع ليصدر ذهباً بسعر الخسارة..!!
صحيفة اليوم التالي