عبد الله علي إبراهيم
(أعادتني المواجهات الدموية بين شعبي (لا قبيلتي) النوبة والبجا في القضارف وبورتسودان، وتحسب الناس من خطرها على الثورة إلى يوم دام من أيام ثورة أكتوبر 1964. وأفسد ذلك اليوم الأسود بهجة ثورتنا لولا أن اسعفتنا القيادة السياسة يومها، وأخذتنا إلى استعادة الثقة في الثورة بمباشرتنا hands on إصلاح ما أفسده المخربون. ومن ذلك تولى اتحاد طلاب جامعة الخرطوم نقل الطعام إلى الجنوبيين الذي لجأوا إلى استاد الخرطوم خوفاً على حياتهم. وسترى أننا أخذنا ذلك اليوم على علاته ك”نزاع عرقي أو قبلي” حتى جاء في رسائل للسفير الأمريكي على تلك الأيام أن الأمر أوحش مما قر في خاطرنا مما عرضنا له بالأمس).
كنت عائداً من عطبرة عصر الأحد 6 ديسمبر 1964. وهو اليوم الذي تضرج بالدم حتى عرفناه باسم “الأحد الأسود.” نزلت عند محطة سكك حديد الخرطوم بحري واتخذت سبيلي راجلاً حتى بلغت سوق البلدة الرئيس. كان من الطين اللبن تحليه مكتبتان متعة للنظر. وذعرت فجاءة من تصرف ثلة من الشاب الجنوبيين ممن فرضوا أنفسهم على الشارع. وتفاديت الثلة اعتقاداً مني بأنها جماعة معزولة سرعان ما يجف حبر سخطها بشغب محدود. واتخذت طريقي لمنزل أخي المرحوم محمد علي إبراهيم بحي الوابورات.
لم أعرف وقتها أنني كنت في عين عاصفة اليوم المشؤوم: الأحد الأسود. فقد كانت تلك الثلة من الشباب الجنوبي موجة عنف انداحت مثل أخريات من مطار الخرطوم ظهر ذلك اليوم. فكانوا تجمهروا بين جنوبيين آخرين لاستقبال السيد كلمنت أمبورو وزير الداخلية العائد من الجنوب. وقد نسيت لماذا كان هذا الاستقبال ضرورياً. غير أن احتلال كلمنت لهذا المنصب الدقيق في الدولة كان سبباً في حد ذاته للفرح الجنوبي. (واتضح لي كما كتبت أمس أنه لم يكن فرحاً بل احتجاجاً على احتلال كلمنت هذا المنصب في صحبة الشماليين). وقد أصبح هذا السؤدد ميسوراً بفضل ثورة أكتوبر 1964 التي كان الجنوب وتعزيز مكانته السياسية في منتصف دائرة اهتماماتها. وقد سمعنا فيما بعد أن جماعات من بين الشباب الجنوبي المتجمهر كان احتسي من بيرة المطار في انتظار الوزير. واستاءوا لما جري الإعلان عن تعذر وصول الوزير في ذلك اليوم. وخرجوا غاضبين من المطار لم يتكلفوا دفع فاتورة البيرة. واشتهرت عنهم عبارة ” سيدفع عنا كليمنت” (Clement will pay) وصارت مثلاً في الدفع المؤجل.
لم أكد أضع عفشي وأسلم على أهل الدار حتى أسرعت إلى جامعة الخرطوم التي كنت طالباً بالسنة النهائية من كلية آدابها. وقد أصبحت الجامعة أيضاً مركز الخبر والفعل السياسي منذ ثورة أكتوبر. وعلمت فيها أن الأمر متفاقم، وأن جماعات الشباب الجنوبي قد انحدرت إلى سوق الخرطوم كذلك. وتكرر اعتداؤها على السابلة والمتاجر. وتدهور الموقف فجاءة أمام ناظرينا حين رأينا في بداية الليل الحريق يشب في مركز الكتاب الإنجيلي بالسوق ويتهافت اللهب على طابقه الثاني.
وبدا أن رد الشماليين على العنف الجنوبي قد بدأ. فقد بدا لجماعات شمالية أن المركز هو وكر المؤامرة والبؤرة التي يتناسل منها العنف عبر جماعات الشباب الجنوبي التي كانت تتسلل منه أو تأوي اليها. وأُسقط في يدنا نحن شباب أكتوبر الذين حسبنا أن ثورتنا هي المرهم المزيل لأوجاع الوطن المحترب. وما زلت أذكر صوت زميلنا المرحوم محمد عوض كبلو جهيراً أجشاً كالعهد به يكرر بلا انقطاع: “هذه مؤامرة، هذه مؤامرة.” كانت تلك قلة حيلتنا وخيبتنا في تلك الليلة التي انكسر حلم الإخاء السوداني فيها، وفسد استثمارنا فيه. ولا يهم. فالمؤامرة أيضاً فعل تاريخي لا مناص منه. وكان لأكتوبر في عقيدتنا خصوم كثر.
لم يطل مكوثنا مكتوفي الأيدي. فقد بدأت خطوط الفعل الحزبية والطلابية تتسرب إلينا ونحن نشاهد حريق الأحلام . . . وبلابل دوحنا. فقد جاءنا من الحزب الشيوعي، وكنت عضواً به، أن الوضع سيتردى تباعاً إن لم نمسك بزمام الأمر. وطلبوا منا التركيز على ريف العاصمة (بري اللاماب، شمبات وحلفايا والقوز وما حوله). فقد تواترت الأنباء أن أهل شمبات قد دقوا نحاسهم منتقلين من الدفاع إلى الهجوم.
كنت من بين الفريق الذي اتجه إلى بري اللاماب في نحو العاشرة ليلاً. وتمركزنا عند متجر من ذي برندة وارفة مرتجلة. ولا أدري من زودنا بتمر من ذلك الدكان كان زادنا حتى مطلع الصبح. وكانت مهمتنا أن نحمي الجنوبيين في الحي من اعتداء المتربصين. فما يظهر جنوبي في جهتنا حتى نحيط به مخاطبين المتحرشين به أن يعقلوا درءً للفتنة.
في وقت من تلك الليلة تفقد موقعنا أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب بصحبة الأستاذ أحمد السيد حمد الزعيم الختمي المعروف. وأذكر أنهما بقيا معنا لشوط طويل من الليل وقد اقتسموا معنا تمر الدكان. وكان هذا منهما تآزراً متيناً ملهماً.
بدأ ذلك المساء بمعظمنا ونحن فراجة على مشهد من العنف الجنوبي مجهول الهوية والمقاصد وردود الفعل الشمالي عليه التي لم تتأخر. وانكسر خاطرنا الثوري. ثم ما تقدم الليل إلا واطردت التراتيب السياسية لاحتواء الموقف حتى توزعنا الأدوار نحمي بها ثورتنا من تطفل العنف. وتلك تربية سياسية في الهمة والسداد ما زالت تلح عليّ. فلازلت أذكر هجرتي في ذلك اليوم من غموض الأشياء، وأنا أذرع شارع سوق بحري في أول المساء، إلى موقعي في بري اللاماب أفض بيدي ذلك الغموض وأدرأ شره المنتظر. وكنت حين أدير عيني حين وقف عبد الخالق وأحمد السيد حمد اطمئن إلى رجاحة الذي نحن فيه من أمر الوطن.
تلك تربيتنا السياسية، فجئني بمثلها.
صحيفة التحرير