بومة منيرفا التي لا تُحلق إلا في الظلام، عبارة الفيلسوف الألماني (فريدريك هيجل)، وكان يقصد بها الفلسفة، فقد كانت البومة عند الإغريق القدماء، ترمز الى الحكمة أو الفلسفة، أما منيرفا Minerva فهي آلهة الحكمة عند الرومان وعادةً ما تصوّر وعلى ذراعها بومُ ذو نظرة ثاقبة وبعيدة. وهنا نلاحظ أنَّ الحرية والتغيير، الاسم الشائع الأخير لتحالف المعارضة السودانية التي قاومت ظلام الإنقاذ منذ التسعينات، ازدهرت في خضمّ الأزمات والمحن (سنوات الظلام الإنقاذي) وسنتجاوز ، قدماً، أننا – في الشرق عموماً – ننظر للبوم على أنه رمز للشؤم والخراب والدمار، ربما لأن البوم لا ينشط إلا ليلاً في الظلام ويميل للسكن بعيداً وفي الخرائب (إنه البوم الذي يعجبه ليل الخراب) في قولٍ موحٍ للشاعر محمد الحسن سالم حميد، وسنعتمد موقف الغرب – وهيجل – المغاير، فهم يحتفون باعتزال البوم للمناطق المأهوله بالناس و نفوره من ضجيجهم، ويعتقدون فيه الميل إلى الهدوء و السكينة، ولذلك يتخذون من هذا الطائر المتوحّد رمزاً للحكمة و المعرفة.”
في الفترة من ديسمبر 2018 وحتى 11 أبريل 2019، حلقت الحرية والتغيير في سماء السياسة السودانية تحليقة وحيدة ثم هبطت لدرك الظلام، ولم يعد أحد يأبه بها رغم أنّها أصبحت الائتلاف الحاكم. قادت التظاهرات الشعبية التي انتظمت البلاد ووصلت بها إلى الشاطئ سالمة. يمكن القول إن الحرية والتغيير ضبطت إيقاع التخت الثوري ونجحت في تجنيب البلاد مصير الدول التي مزقتها الثورات الملونة مثل ليبيا المجاورة، وسوريا واليمن، ولكن بعد 11 أبريل فقدت الحرية والتغيير الهدف والمشترك وفشلت في إدارة الخلاف بين مكوناتها، وراحت تتخبط في وحل المرحلة الثورية الثانية وخلال التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، وبعد توقيع الوثيقة الدستورية في يوم 17 أغسطس 2019م ثم تشكيل الحكومة الانتقالية الأولى في 5 سبتمبر 2019 ولا زالت تتخبط حتى اليوم، وهو فشل في إدارة الفترة الانتقالية دفع ثمنه ، غالياً، المواطن الذي كان ينتظر، بلهفة، نهايةً لهذه المأساة الوطنية التي بدأت قبل ثلاثين عاماً، ولكنه، لسوء الحظ، وجد الأمور تسير من سيء لأسوأ، حتى أصبح، من المنطق العملي، التشكيك في إن كانت الحرية والتغيير، هي فعلاً، من قادت الثورة الظافرة التي أسقطت نظام الثلاثين من يونيو!؟
على عكس بومة منيرفا التي عُرفِت بالحكمة والمعرفة، انتهجت الحرية والتغيير نهجاً أقرب للرعونة، وأبعد ما يكون عن الحكمة والرشد، في مرحلة ما بعد سقوط النظام، خلال المفاوضات، وقبل تشكيل حكومة حمدوك الأولى، إذا استثنينا دعوات الإمام الراحل الصادق المهدي الراتبة خلال تلك الأيام، فقد انشغل قادة الحرية والتغيير بتوزيع السلطة – وربما الثروة – وإقصاء بعضهم عن مراكز القرار، وتجاهلوا قضايا ومبادئ الثورة التي توشحت بدماء الشهداء الزكيّة. القضايا والمبادئ المضمنة، تحقيقاً، في إعلان الحرية والتغيير، يناير 2019م، ومن ثم الوثيقة الدستورية لاحقاً، بل ربما عملوا ضدها قولاً واحداً.
“وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أٌوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا”، الحرية والتغيير هي آخر تخلق لتحالف المعارضة السودانية التي قادت المعركة الوطنية ضد نظام الإنقاذ الثلاثيني. بدايةً بالتجمع الوطني الديمقراطي (1996م-2005)، تحالف إعلان جوبا أيام نيفاشا، ثم تحالف قوى الإجماع الوطني وقوى نداء السودان، وأخيراً قوى إعلان الحرية والتغيير والذي يتشكل كعادة تحالف المعارضة، وعلى الدوام، من ذات القوى السياسية: حزب الأمة، الاتحاديين، الحزب الشيوعي، البعثيين، المؤتمر السوداني، الناصريين، حركة حق، قوى المجتمع المدني، النقابات الشرعية ثم تجمع المهنيين السودانيين لاحقاً، قوى الكفاح المسلحة (الحركة الشعبية بقيادة قرنق، ثم الحركة الشعبية شمال لاحقاً) وحركات دارفور. إذاً الحرية والتغيير هي خلاصة الخلاصة وليست مجرد مولود(خديج) طارئ على المشهد السياسي فرضته ظروف ثورة ديسمبر، فكيف تبدو خديجاً لم تتعلم شيئاً من سنوات عمرها الثلاثين؟.. لم ينسَ شيئاً كملوك البوربون الفرنسيين.. لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً.
أرشيف
محمد المبروك
صحيفة اليوم التالي