توقيع الاتفاق لا ينهي الأزمة السودانية
التوليفة السياسية الجديدة بين قيادة الجيش ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، ورغم ما أحيط بها من تفاؤل، فإنها لم تتقدم قيد أنملة لحلحلة الأزمة، أولا بسبب توازنات داخلية لا تزال تضع الحكومة الجديدة تحت مجهر المحاصصة، وثانيا غياب الدعم الخارجي وخاصة من واشنطن.
من تصوروا أن توقيع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان على اتفاق سياسي مع رئيس الحكومة عبدالله حمدوك ينهي الأزمة تأكدوا من أنهم على خطأ، فلا تزال نتائج الاتفاق لم تظهر، وربما لا تظهر أبدا، وغالبية البنود التي حواها لم تر النور لأن جزءا كبيرا من القوى المدنية المؤيدة لحمدوك رافضة لاتفاقه مع البرهان.
وحتى الأحزاب المؤيدة له كشخصية مدنية طموحة لم تجازف صراحة برمي ثقلها خلفه في هذه الأجواء العاصفة، لأن الظروف التي يعمل فيها لن تسمح بخروجه سالما من الناحية السياسية، حيث بدا الجيش كأنه أراد حرق ورقة حمدوك في الشارع.
انعكست هذه الحيلة في التضارب الحاصل حول تقييم الرجل داخل بعض القوى، وفي مقدمتها حزب الأمة القومي، وما الخلاف بين قياداته سوى أحد تجليات التباين في التقييم السياسي للوضع العام، وبدلا من أن يتحول الاتفاق السياسي إلى ركيزة لاستعادة الأمن والاستقرار قد يتحول إلى كرة لهب قد تحرق حمدوك وأنصاره.
بدأت قوى سودانية عديدة تبحث عن صيغة تعيد ترتيب الأمور على أسس سليمة بين العسكريين والمدنيين واستكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية، وجرى تسريب معلومات بشأن العمل على التوصل إلى ميثاق جديد لكن البعض نفى وجوده، بينما أكده آخرون، ما يعني أن الفجوة السياسية كبيرة حيال الميثاق ومكوناته وأهدافه وأطرافه.
يمنح الحديث عن الميثاق فرصة للمكون العسكري للمزيد من الفرز داخل القوى المدنية التي تعرضت لهزة كبيرة الأسابيع الماضية، وبدأت الانقسامات داخلها تسيء إلى دورها السياسي، حيث تعمد البعض تصويرها في شكل المتشوقة للسلطة بأي ثمن.
بعض التطورات تؤكد أن مناكفات السودان لا تتحكم فيها تطوراته الداخلية، فالخارج جزء أصيل في الأزمة، بإيجابياته وسلبياته
تسببت الإجراءات التي اتخذها الجنرال البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي وأدت إلى إقالة حكومة حمدوك وفرض حالة الطوارئ واعتقال عدد من السياسيين، وغيرها من القرارات، في هز ما تبقى من ثقة في قيادات المؤسسة العسكرية وجعلت أي اتفاق يمكن التوصل إليه معها محل شكوك ما لم تتوافر قاعدة عملية متينة تسهم في تبديد الخوف من انقضاض الجيش مرة أخرى على السلطة.
يكشف تأخر الإعلان عن الحكومة الجديدة عن أزمة مزدوجة، فحمدوك لا يستطيع تشكيل حكومة من كفاءات مستقلة تماما وهو مكبل بوجود أعضاء الحركات المسلحة فيها وجميعهم ممن لهم ميول وأهواء سياسية معروفة، ولا يستطيع تشكيل حكومة وظهيره السياسي (الحرية والتغيير) مكشوف وتنتابه خلافات حول اتفاقه مع البرهان.
تبدو فكرة الوثيقة أو الميثاق السياسي جذابة للبعض للخروج من المأزق الحالي الذي يمكن أن يفضي إلى سيناريوهات قاتمة إذا لم تتمكن الطبقة السياسية العاقلة من غلق ملف الخلاف سريعا، ومخيفة للبعض الآخر لأنه قد يكون فخا يقنن نفوذ العسكريين، وإذا تصور المدنيون أن الخطوة ستكون في صالحهم فالجيش يحكم السيطرة على الكثير من المفاصل بما يمكنه من تعطيله أو شد الدفة ناحيته عند اللزوم.
المشكلة أن الوقت لن يسعف السودان لبلورة الوثيقة سريعا بصورة ربما تؤدي إلى خلق واقع لا يعمل لصالح القوى المدنية، فقد استغرق التوصل إلى الوثيقة الدستورية الأولى نحو خمسة أشهر قبل أن تهتز ثقة المدنيين في العسكريين، ولم يتم استكمال هياكل المرحلة الانتقالية حتى الآن، وأبرزها تشكيل المجلس التشريعي، على الرغم من مرور أكثر من عامين على الانتهاء من الوثيقة الأولى.
كما أن تحقيق السلام الشامل الذي كان من المفروض تحقيقه في غضون ستة أشهر استغرق أكثر من عام لعقد اتفاق جوبا مع بعض الفصائل دون سلام شامل معها أيضا، ولا تزال هناك حركات مسلحة لم يبدأ حوار السلام معها، بما يشير إلى أن عنصر الزمن لا يعتد به ويمكن أن يتم ضرب عرض الحائط به، فلا قيمة له عند الكثير من السياسيين، ولا يوجد إدراك حقيقي لما يفرزه من وقائع على الأرض.
قبل حمدوك الاتفاق السياسي بحجة حقن دماء السودانيين أو بسبب ضغوط خارجية مورست عليه أو وفاء بتعهدات تتعلق بتهيئة البلاد للحكم المدني، في كل الحالات يقف الآن الرجل في منتصف الطريق لا هو قادر على استعادة جميع القوى السياسية لتحالف الحرية والتغيير، ولن يتمكن من عبور الأزمة بمفرده ويقبل أن يكون عجينة يشكلها الجيش بالطريقة التي يريدها.
تُسقط إشكاليات البحث عن ميثاق وطني يؤيده المدنيون والعسكريون الرهانات التي ذهبت إلى أن التوافق بينهما أحد المحددات الرئيسية لتخطي عقبات المرحلة الانتقالية، وأن التفاهمات بينهما حتمية ومن دونها يمكن أن يدخل السودان في دوامة يصعب الفكاك منها، وربما يظل الموقف معلقا فترة طويلة ويجلب معه تأثيرات سلبية.
إذا كان التوافق بين الجانبين خلال الفترة الانتقالية بات صعبا، وحكم العسكرين مستحيلا، وسيطرة المدنيين على السلطة تبدو بعيدة المنال، فالمسألة الآن تعود تدريجيا إلى نقطة الصفر وتحتاج إلى وساطات جديدة لأن استمرار الأوضاع على ما هي عليه يقود إلى تفاقم الاحتقانات بين القوى السودانية، بشكل يجعلها تتجاوز التصنيف الدارج حاليا بين فساط العسكريين وفسطاط المدنيين.
لعلّ تصاعد الأحداث الدموية في إقليم دارفور من حين إلى آخر يمثل جرس إنذار لكل من يتابع التطورات، حيث تطل برأسها كلما زاد الانسداد في قمة هرم السلطة، بما يوحي بوجود جهات من مصلحتها لفت الأنظار إلى الهامش وإبعادها عن المركز.
علاوة على أن تجميد الأوضاع في شرق السودان يضع عبئا على الحكومة الجديدة، فحمدوك لا يزال وجها غير مقبول من شريحة من قبائل الشرق، والقيادات التي وقعت على اتفاق جوبا كممثلة عن مسار الشرق غير معلوم مستقبلها.
قوى سودانية عديدة بدأت تبحث عن صيغة تعيد ترتيب الأمور على أسس سليمة بين العسكريين والمدنيين واستكمال ما تبقى من الفترة الانتقالية
تكفي هذه المعطيات لعرقلة أي صيغة لوثيقة أو ميثاق جديد بين العسكريين والمدنيين، وتجعل ولادة حكومة حمدوك الثالثة ولادة قيصرية، يمكن أن تواجه المصير ذاته الذي واجهته حكومتاه السابقتان، ولذلك يخشى أن يخطو نحو المزيد من التقدم في تفاهماته مع الجيش فيحترق سياسيا، ويخشى أكثر من نتائج النكوص عن اتفاقه مع البرهان فيحترق أيضا، وبات يعوّل على تكثيف الضغوط على المؤسسة العسكرية.
ففي الوقت الذي ينشغل فيه السودانيون بهموم تشكيل الحكومة وهيمنة الجيش والبحث عن ميثاق جديد، تجري داخل الولايات المتحدة تحركات سريعة داخل مجلس النواب، حيث أقرت لجنة الشؤون الخارجية بالمجلس مشروعا يتعلق بإدانة الانقلاب العسكري وفرض عقوبات فردية على المتسببين في تعطيل المسار الديمقراطي بالسودان.
يؤكد هذا التطور أن مناكفات السودان لا تتحكم فيها تطوراته الداخلية، فالخارج جزء أصيل في الأزمة، بإيجابياته وسلبياته، فقد يسهم في حل ألغازها أو يزيدها تعقيدا، ولن تتوقف إشكاليات الميثاق السياسي الذي يبحث عنه البعض على صراع بين مدنيين وعسكريين، فأزمة السودان دولية بامتياز، وذلك عنصر يخيف النخبة الوطنية التي تدرك أن صراعات القوى الكبرى باتت خطرا على بلدهم أكثر من أي وقت مضى.
صحيفة السوداني