قصة أغنية .. تمنى محمد وردي أن يُغنيها: العزيزة .. النشيد القومي للعاشقين

في تعاملاتنا الحياتية قد نصادف أشخاصاً يتطابقون فعلياً مع أسمائهم.. وربما نجد من يحمل اسماً (جميلاً) أو (الهادي)، فيكونوا بنفس تعابير الكلمة مهما امتلأت بمدلولاتها الجمالية فتصير أسماء على مسمى.. ويبدو أن أغنية (العزيزة) هي بنفس تلك المواصفات.. فهي أغنية ليست عزيزة على شاعرها الأستاذ سعد الدين ابراهيم لوحده ولكنها أغنية عزيزة على كل الشعب السوداني.

أعصاب بعيدة:

وهذه العزة حتمتها ثمة مكونات، ويظل صدق العاطفة وجيشانها هي السمات الأبرز لهذه الأغنية، فهي كالمعول حفرت عميقاً في الدواخل ولامست تلك الأعصاب البعيدة.. وذلك لأن شاعرها “أبو السعود” في لحظتها كان مسكوناً بعشق كبير خيبته الأيام ولم تترك براعمه تتفق .. وصحيح ان العزيزة كانت موقفا حياتيا خاصا بسعد الدين ابراهيم ولكنها في ذات اللحظة تنفك من أسارها ذلك وتصبح حالة شعورية مشاعة بكل مفاهيم الاشتراكية الوجدانية.

مشنقتي:

سعد الدين ابراهيم يمتلئ بالشجن حين يستدعي تلك الأيام من أطراف ذاكرته وهو يحكي عنها بصدق وبعض الألم الذي اعتدنا أن ننبشه في حالات أغنية بادهش (العزيزة)، جلست إليه ليحكي لي قصة هذه الأغنية فقال (في ذات اللحظة التي تسألني فيها عن حكاية أغنية العزيزة كنت أفكر في ديكتاتورية هذه الأغنية.. فهل ستصبح مشنقتي؟

تفاصيل قديمة:

وقبل أن استرسل في تفاصيلها القديمة، فهي سجلها لشركات الإنتاج الفني رهط من فناني الجيل الجديد بدأت بنزار الماحي ثم عاطف أنيس ثم توبين واخيراً الطيب مدثر.. وقد وعدني الشاعر الكبير أزهري محمد علي أن يسمعني لها بصوت مصطفى سيد أحمد في تسجيل خاص له، كما صرح الفنان الكبير محمد وردي بأنه يقدرها ويحبها.. فلماذا ستظل متسلطة منذ منتصف السبعينيات؟ إذ أن عمرها أكثر من ثلاثين عاماً وما زالت وكأنها تذاع لأول مرة بالنسبة للأجيال الجديدة.

فتحي حسين:

قلت لسعد الدين هذه اغنية تنسب لك كشاعر أكثر من مغنيها فتحي حسين، فقال “عادة تنسب الأغنية للفنان الذي أداها أكثر من شاعرها وملحنها.. ولكن بسبب أن مغنيها فتحي حسين انزوى بعد التغني بها، اخذ يتغنى بها العديد من الفنانين، فصارت تنسب الى الشاعر وفي هذا بدعة جديدة”.

السحر الخفي:

ماذا أقول عنها: قلت لسعد الدين ما هو السحر الخفي الذي جعل هذه الأغنية جديدة ومتجددة طيلة هذه الأعوام، فقال (ربما في جرعة الصدق في القصيدة.. ففي ذلك الزمن كان القلب أخضر وكان الحب يتساقط من فضاء العذوبة وكان الحب ضرورة.. فكانت العزيزة اختيارا متوافقا دون ترتيب. فطوقتني بحب أكبر.. فماذا أقول عنها). ويكفي أنني ما سرت في (شارع مشيناه زمان سوا) إلا و(شعرت جلدي كلبت).. وما سمعت أغنية رددناها مرة (سوا) إلا وتورمت أجفاني.. وما زالت العطور التي تحبها تملأ خياشيمي.. الألوان التي تفضلها ما زالت ألواني المفضلة.

براعم خنقت:

وتركت سعد الدين يتداعى ويجتر تلك الأيام (إن قلت لك أن الفراق الذي كان والقطيعة التي تمت كانت بسبب تكالب قوي من الانس والجن ساهم أن يمضي عشق جميل كهذا للأمام.. كنا براعم خنقت قبل أن تتفتح. وشاء القدر أن لا يكون في الدنيا مثل هذا الوجد والحنو والوله.. وتسألني يا سراج الدين عن حكاية الأغنية وقصتها.. أي حكاية وأي قصة.. عن تفاصيل الأغنية حتى تشكلت.. أم حكايتها في (عضمها) ولعلي أشرت الى ذلك وهو يستعصى على التدوين.

كيف أصبحت أغنية:

أما قصتها وكيف أصبحت أغنية، فسأحكي لك: كنا في المرحلة الثانوية وكان زميلي الشاعر الراحل (يوسف محمد يوسف) قد أصر عليّ أن يعرفني على الملحن القنبلة آنذاك الأستاذ عمر الشاعر. وحملت له قصيدة العزيزة كعربون صداقة، فذهبنا اليه ولكن لم نجده فتركت قصيدة (حروف للعزيزة) وكانت أطول وتتضمن أبياتا أكثر ولكن عمر اكتفى منها بما قطع.

زيدان ابراهيم:

ويضيف أبو السعود بحميميته المعهودة ويقول (حضر الي الأخ الفنان فتحي حسين في منزلي بالثورة الحارة الخامسة وعرفني بنفسه وابدى رغبة في التغني بالأغنية والتي كان مرشحا لها زيدان ابراهيم وكان حينها نجم الشباب وصاحب أغنيات (ضاربة في الحفلات) في السوق.. وقال لي فتحي حسين كنت أغني في بعدك يا غالي ولكن شاعرها وملحنها أخذاها مني وفضّلا علي زيدان.. وتعاطفت معه.. لكني كنت لم استمع إليه بعد.. وسألت عنه صديقنا الفنان الراحل (التجاني مختار) فدعانا الى جلسه في منزله.. واستمعنا الى فتحي حسين بصوته المميز الآسر ببحة شفيفة، فأعجبت به.

تداعى:

حينما كان يحكي سعد الدين قلت في قرارة نفسي يجب أن لا أقاطعه بالكلام والسؤال.. لأن كلماته كانت مليئة ولم تحوجني للأسئلة.. فتركته يتداعى (وعندما فكرت في الأمر قلت هي مغامرة لذيذة، فلو غنى لي زيدان وهو نجم النجوم آنذاك فلن أحقق مجداً ولكن لو غناها هذا الشاب الواعد ونجحت سيحسب ذلك لي، وقد كان وتنازلت له عنها وسط دهشة الجميع بما فيهم عمر الشاعر ولكني موافقتي شجعته علي المغامرة.. فكانت العزيزة.. ولم تجد حظها من الشهرة وإن وجدت الإعجاب.. وقدمها القدير عمر الجزلي ضمن برنامجه الشهير “أوتار الليل” وهو كان لا يقدم فيه إلا أغنيات لكبار الفنانين.. وأشاد بها المذيع الفنان عبد الكريم قباني وأسماها النشيد القومي للعاشقين.

سراج الدين مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version