السودان دولة كبرى مترامية الأطراف, كل جهة من الخرطوم تبعد حوالي ألفي كيلو متر طولي, أي الحدود في الجهات الأربع لا تقل عن ذلك, وهي فيها طيف قبلي كبير حوالى خمسمائة وسبعين قبيلة, وكذلك مختلفة السحنات, بل بها وجود حزبي وأهلي وطائفي كبير, وهي بكل هذا الزخم سيطرت عليها نخب مركزية جعلت القرار في قلب الخرطوم, وسيطرت عليه بعض الأحياء في صرة الخرطوم, بل لا تجد في الحكم لا أمبدات ولا الثورات ولا مايو ولا جبل أولياء ولا الجيلي ولا سوبا ومرابيع الشريف ولا الجخيس ولا ولا ولا. وهذا الأمر الآن صار واضحاً جداً, وإن هذه النخب ظهرت جلياً وإن حديثها عن دولة اسمها السودان يشترك كل أهلها في حكمها وإدارة شأنها كلامٌ للاستهلاك, وإن السودان وطنٌ للجميع أمر غير صحيح, حتى شعار مثل (يا عنصري يا مغرور كل الوطن دارفور) هو شعار تنويمي وخدعة وغشة كبيرة, وبل اهتمام الحاضنة السابقة كان فقط بالخرطوم وأحياء محددة في التشغيل والتوظيف والتمكين, حتى المشاركة في السلطة من الجهاز التنفيذي والمؤسسات الاقتصادية وصناديق الضمان الاجتماعي, بل المؤسسات الاجتماعية صارت كل مفاصل الدولة لنخب الخرطوم, بل حتى الشورى والرأي والقرار مُحتكرٌ لهذه الصفوة الحزبية الضيِّقة وخاصةً أحزاب “قحت” التي كانت تحكم, ووضح جلياً أن ريف السودان من ضواحي الخرطوم حتى أقاصي السودان في كل الاتجاهات ليس محل اهتمام هذه النخب الحاكمة, وخاصةً نخب اليسار التي سيطرت على شؤون وإدارة الدولة.
وفِي تقديري, هذه النظرة خطيرة, لأن السودان ليس بعض أحياء الخرطوم ولا بعض الساسة والنخب ولا حتى المتظاهرين الذين يتظاهرون من وقت لآخر. أهل السودان هم كل شعب السودان بتنظيماتهم الأهلية والاجتماعية والطرق الصوفية ومنظمات المجتمع المدني, وأغلب هؤلاء هُم مُجتمع السودان خارج الخرطوم, وهم عامة الشعب, ليس المثقفاتية ولا أحزاب الصفوة وجماعة الأصدقاء والأقارب, بل ليسوا هم أحزاب الشلل التي تتلاقى وتتماهى مع بعضها وتدعي أنها تمثل أهل السودان.
وفِي تقديري, إن الذي يجري الآن سرقة لمشروع الوطن الجامع وسرقة للثورة واختزال السودان في ماعون ضيِّق ومشروع نخب سياسية استغلت كراهية الناس للإنقاذ في آخر عهدها وصارت ترفع شعارات التخويف والتخوين وتستغل بعبع الفلول حتى تسيطر على الدولة السودانية من قلب ومركز الخرطوم وتقسم مجتمع السودان, بل تستعمل هذه الفزاعات لتبعد أهل الريف من حكم السودان, وراجعوا معي الحكام وشكل الحكم من الحكومة الأولى لحمدوك وحتى الآن, بل راجعوا أصحاب الشورى والرأي, بل راجعوا الذين شغلوا وظائف الدولة المهمة وخاصة محل المال والسلطة تجد أن حظ الريف السوداني ضعيفٌ جداً, بل هم قرائب ولو كان بعضهم حزبيين.
أعتقد ما يجري في الفترة الانتقالية أسوأ فترات حكم السودان منذ الاستقلال وأقل مشاركة لكل ريف السودان في هذه الفترة, خاصة وأنها فترة تعيينات دون أُسس موضوعية وليست فيها انتخابات, ولذلك نصيحتي للحاكمين الآن التفتوا الى سكان السودان البعيدين من الخرطوم مركزة الحكم في أيدي شلة قرائب مدعاة لصراع كبير في السودان, وكل الثورات والحركات التي قامت في السودان سببها الشعور بأن الحكم ممركز في الخرطوم, وإن الريف بعيدٌ عن ذلك, والآن صار الأمر أكثر وضوحاً, حيث إن أمر السلطة والمال والحكم صار لبعض شلل من سكان قلب الخرطوم, وحتى أبناء ريف السودان القلة المتواجدين في الحكم غير مرغوب فيهم! هذا الأمر مُحتاجٌ لمعالجة عاجلة ليس فقط في مقترح أن يكون من كل ولاية وزير, ولكن يشرك كل ريف السودان في الوظيفة العامة وفق المُؤهّل والكفاءة, ولكن بشمول أهل السودان, بل بنسب السُّكّان, وأن تُضاف معايير أخرى لهذه الوظيفة العامة من غير الكفاءة والمُؤهّل ليتساوى مواطنو السودان في حق المُواطنة.. فالواجب والحق يتساوى فيهما جميع أهل السودان, هذا هو الذي يحفظ السودان دولةً واحدةً.. انتبهوا يا حُكّام السودان.
صحيفة الصيحة