يحسب كثيرون ان إجراء انتخابات حرة سيفتح مغارة علي بابا ويقود الى الاستقرار السياسي والأمني والرفاه الاقتصادي، والانتخابات هي الباب الذي قد يؤدي وقد لا يؤدي الى تحقيق الديمقراطية، وغني عن القول انه لا ديمقراطية ولا انتخابات حرة بدون أحزاب، والديكتاتوريون وحدهم من يهاجم الحزبية ويعتبرها آفة تؤدي الى انقسام الشعب
ولكن ما هي نوعية الأحزاب التي ستخوض الانتخابات المقررة في 2023؟ هل يملك أي منها فرصة الفوز بعشرين مقعد في برلمان قد يتألف من نحو 400 مقعد؟ أشك في ذلك، فأقوى هذه الأحزاب هو حزب الأمة القومي (هناك كذا حزب أمة من صنف الفكة)، وكانت دارفور أكبر مخزن للمقاعد متاح لحزب الأمة، ولكن، وفي الانتخابات المرتقبة ستتقاسم كل تلك المقاعد تنظيمات دارفورية تحمل السلاح، ولم تعد هناك منطقة نفوذ تاريخية لحزب الأمة الا في رقعة محدودة من النيل الأبيض لن تعود عليه بأكثر من مقعدين أو ثلاثة، وقد يحصد الحزب مقاعد متناثرة في الجزيرة وغيرها ولكن اجمالي ما سيحصده لن يبلغ في تقديري عشرين مقعدا، ومع هذا قد يكون حزب الأمة هو صاحب الأغلبية البرلمانية لأن نده التقليدي وهو الحزب الاتحادي تمزق بسبب خلافات بين قياداته، ثم جاء جعفر ومحمد الحسن الميرغني لوراثة كرسي والدهما في قيادة الحزب، وزادوا الحزب تمزقا وتشتتا، لأنهما يعتقدان ان الحزب يسير فقط ببركة “دمائهما الشريفة”، ويبقى مما يسمى بالأحزاب التاريخية، البعث المنقسم الى ثلاثة اجنحة والحزب الشيوعي وكلاهما ليسا من الأحزاب الجماهيرية، فلم يسبق للبعث ان حقق أي نصر برلماني، بينما تقلصت مقاعد الحزب الشيوعي من 11 في برلمان 1965 الى 3 في برلمان 1986، وهناك أحزاب ما تزال في مراحل جنينية، ومنها حركة “حق” ولعل “أكبرها” هو حزب المؤتمر السوداني، ولكن أمامه مشوار طويل كي يثبت أنه قادر على التمدد في الأرياف والبوادي، وقد يفوز بمقعدين او ثلاثة في مناطق حضرية في الانتخابات المقبلة، وبالمقابل فإن معظم الشباب الذين تحملوا عبء ثورة ديسمبر وما زالوا يرابطون في خندق الثورة بلا انتماء حزبي لأنهم ربما لا يجدون في الساحة حزبا يتمتع بمصداقية جاذبة
وفي تقديري- والردة نحو القبلية والجهوية تجد التشجيع من حميدتي والبرهان وريثي نظام عمر البشير الذي كرس النزعات القبلية- فإن كل أهل منطقة وقبيلة سيختارون واحد منهم فيصبح معظم أعضاء البرلمان ممثلين لمناطق وقبائل غير متجانسة سياسيا، فيكون عندنا برلمان “لحم راس” كما تحالف قوى الحرية والتغيير الذي ضاع وأضاع مكاسب ثورة ديسمبر وتركها لقمة سهلة للعسكر، لأن الكيانات التي تربو على الستين التي شكلته صارت تتكالب على المغانم الشخصية والحزبية بغير وجه حق
وتبقى آفة أحزابنا هي عبادة الفرد، فالاتحادي بنى مجده حول إسماعيل الأزهري ثم الشريف يوسف الهندي، وظل الصادق المهدي هو قائد ومفكر ومرشد حزب الأمة القومي الأوحد، وكان الحزب الشيوعي وما زال الى حد كبير ذا ولاء شديد لعبد الخالق محجوب، والحركة الشعبية الأم كان جون قرنق وهو الكل في الكل فيها، وهناك اليوم من يحاول تصنيم عبد الله حمدوك بتسميته بال”مؤسس”، ثم تداول عبارة “شكرا حمدوك” على أي انجاز تحققه الحكومة الانتقالية، وأحيانا بدون مناسبة
المهم أنه وبوفاة القائد السياسي ذي الكاريزما يدخل “الحزب” في مراحل الضمور والانكماش والتشرذم، والآن وفي غياب هذا الصنف من القادة من المشهد سيكون عندنا برلمان يشهد دلالات ومزادات سياسية لشراء الأصوات والذمم ويعطي برهانا جديدا الذريعة للقيام بانقلاب.
جعفر عباس