بقراءة متأنية لما يجري في الشارع السياسي من تظاهرات رافضة للإتفاق السياسي {البرهان-حمدوك} يتضح الرفض الواسع لما اقدم عليه رئيس الوزراء من توقيع للإتفاق لدرجة وصلت بالبعض لوصفه بخيانة ثورة ديسمبر المجيدة والغدر بها.
في رأيي أن د. حمدوك لا يستحق أن يوصف بتلك الأوصاف فما قام به الرجل جاء من منطلق تقديره للموقف ووفقاً للمعطيات التي توفرت له ويظل ذلك إجتهاد وتقدير شخصي وهو يتحمل كافة تبعاته.
ولكن رغم ذلك فالحقيقة هي أن طبيعة شخصية الدكتور حمدوك تميل لسياسة النفس الطويل في معالجة الأمور الخلافية كما أن شخصيته تتصف بالإتزان الشديد وعدم الميل للمواجهة أو الصدام المباشر مع الخصوم عسكريين كانوا أم مدنيين.
لذلك لا شك لدي أن نوايا د. حمدوك طيبة ووطنية خالصة بتوقيعه للإتفاق السياسي، ولكن ذلك لا ينفي أو يبرر أن تقديراته التي نتج عنها إتفاقه مع العسكريين لم تكن ملبية لتطلعات أغلبية ممن دعموه قبل وبعد الإنقلاب أو فلنقل أنها لم تأخذ في الإعتبار مواقف كل الأطراف الفاعلة وتقييمها لما حدث في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م لذلك لا غرابة أن جاءت توجهاته ورؤيته للحل بعيدة عن ما يتصوره ويطالب به الشباب الثائر والقوى السياسية الرافضة.
من الأشياء التي أعيبها على رئيس الوزراء الموقر هو عدم ممارسة الضغط الكافي على كل الأطراف وعدم استخدام الأدوات المتاحة له وذلك القبول الواسع الذي كان يتمتع به لتمرير وإنجاح مبادراته المتتالية خلال الفترة الماضية وإنزالها على أرض الواقع، والتي كان من الممكن أن تجنب البلاد الإنقلاب الذي حدث وما تلاه من أحداث مؤسفة.
من ناحية أخرى؛ فإن استمرار التظاهرات في الشارع وبهذه الكثافة المستدامة سيسبب إحراجاً وضغوطاً كبيرة على رئيس الوزراء كونه من المفترض أن يمثل القوى المدنية الموجودة في الشارع وهي التي أتت به لهذا المنصب في باديء الأمر فكيف بها الآن تعارض سياساته على الأرض؟!
إذن ما الحل؟
خياران لا ثالث لهما:
الأول أن يثبت حمدوك للشباب الثائر أنه ما زال حريصاً ومؤتمناً على تحقيق أهداف الثورة من خلال تقديم نتائج ملموسة في مواضيع جوهرية من قبيل إعادة لجنة إزالة التمكين للعمل بنفس صلاحياتها حسب الوثيقة الدستورية وعدم إجراء أية تعديلات قد تؤثر على عملها وتحد من تحقيق اهدافها حيث أن اللجنة تمثل رمزية خاصة للثورة وتضمن القطيعة التامة مع سياسات النظام السابق كما تعطي الأمل في إستعادة الأموال العامة للدولة.
يجدر هنا أن نشير إلى أن لجنة إزالة التمكين وردت من ضمن بنود الإتفاق السياسي الموقع والذي سترد تفاصيله من خلال (الميثاق) المزمع صدوره لإدارة ما تبقى من الفترة الإنتقالية.
أيضاً قد يشكل الإسراع في إصدار تقارير لجان التحقيق في قتل المتظاهربن ومحاسبة المتورطين في ذلك بارقة أمل لإستعادة الثقة المفقودة بين حمدوك والقوى الثائرة بالإضافة لأهمية إستعادة سمات الحياة المدنية وضمان الحريات العامة التي كانت سائدة قبل حدوث الانقلاب والمضي قدماً في إكمال مسار التحول الديمقراطي المنشود.
الخيار الثاني هو أن لا يتمكن حمدوك لأي سبب من الأسباب من تقديم ما يرضي الشباب الثائر في الشوارع وإستعادة الثقة المفقودة معه عندها لن يكون أمام رئيس الوزراء من سبيل إلا أن يتقدم باستقالته وهو الخيار الذي لا أتمنى أن تفرضه التطورات الجارية على الأرض، لسبب بسيط وهو عدم وضوح الرؤية حالياً بخصوص إمكانية النجاح في إختيار بديل مناسب لحمدوك في هذا الوقت الحرج.
السيد حمدوك قدم أداءً جيداً خلال الفترة الماضية رغم أنه يعتبر حديث عهد بالعمل السياسي ولا شك أن لديه طموحات سياسية في المستقبل، وهذا من حقه بالطبع، ولذلك ينبغي عليه أن يعمل على “تحسين سجله السياسي” والإجتهاد في ترسيخ أسس الدولة المدنية والبعد عن كل ما يمكن تفسيره على أنه تقاعس أو مهادنة مع كل من ينادي بخلاف ذلك؛ حتى يتمكن من كسب ثقة الأجيال الصاعدة التي ستشكل عصب الحياة السياسية في المستقبل وستكون لها الكلمة الفصل خلال السنوات القادمة إذ تشير المعطيات الحالية إلى إحتمالية حدوث تغييرات جوهرية على خارطة القوى السياسية الفاعلة وتركيبتها وقطعاً سيكون للشباب (القوى الصاعدة) دور مهم ومؤثر في كل ذلك.
وإن غداً لناظره قريب!!
صحيفة الانتباهة