(12)
ما يجري من أحداث سياسية في السودان بعد ثورة ديسمبر هو حالة غير مألوفة لدى النخب و الشارع معاً فإذا كانت العقلية السياسية منذ الإستقلال مبنية إستراتيجيا على نظرية الغالب و المغلوب.. Nock out.. و لا مكان فيها من مساحة لقبول الآخر إلا من باب التكتيك السياسي المؤقت الذي يفرض نفسه ضيفاً ثقيلاً على الأحزاب السياسية و على أجنداتها التآمرية بعد الثورات الشعبية على مستوى الحكومات الإنتقالية و المنتخبة و ظل عقل هذه النخب و وجدانها معلقاً إستراتيجيا بإيجاد فرصة سانحة لسحق الآخرين و القضاء عليهم بالضربة القاضية و إستئصال شأفتهم من المشهد كليةً و تلك هي المعضلة و هذا في تقديري هو السر الذي ظل يؤدي إلى فشل الديمقراطيات في كل مرة ( بالإضافة لأسباب أخرى طبعاً) و يفضح نوايا هذه الأحزاب والقوى السياسية في إدعاء الإيمان بقيم الحرية والديمقراطية ، و فيما أذكر أن أحد قيادات الإسلاميين البارزين قد تحدث لنا في لقاء خارج السودان في منتصف التسعينيات من القرن الماضي عن أن الأحزاب السياسية السودانية الطائفية و اليسارية بالنسبة له هي الآن قابعة في المتحف السياسي السوداني كمؤسسات و كأفراد ولا سبيل لعودتها مرة أخرى و هناك سودان جديد يولد الآن فإذا كانت قيادات الحركة الإسلامية حينها تفكر بهذه العقلية بعد السيطرة على مقاليد الحكم في العام تسعة و ثمانين من القرن الماضي فهذا هو عين ماحدث بعد الثورة و بذات العقلية ظن اليسار السوداني أن الفرصة سانحة له الآن لإستئصال شأفة الإسلاميين و إلغائهم من الوجود كفكرة و كأفراد و وضعهم في متحف التاريخ السياسي السوداني مع تهراقا و المهدي و على دينار و كوش و دولة سنار و الفور و المهدية و غيرها و ذاك غير ممكناً عملياً لكل ذي لب و عقل و لكنه بأي حال قد ظل هو المنطق النظري و العملي على الأرض الذي يقود الممارسة السياسية منذ تأسيس مؤتمر الخريجين لما يقارب المئة عام من عمر السودان دون أن يتعلم أحد الدرس، و لذلك أسباب تاريخية عدة كانت سبباً محوريا في تخلف العملية السياسية منذ ولادتها حالت دون تطورها لا نريد أن نخوض فيها الآن.
قلنا أن ماحدث بعد الثورة غير مألوف لدى الجميع من حيث الممارسة السياسية و قد بدأ بشراكة غير مرحب بها أصلاً من الوهلة الأولى.. شراكة الدم كما يسميها الطرف الحزبي و ليس المدني .. و عدم الترحيب الذي فرض نفسه مخالف لمعهود السياسة في السودان حيث تناغم العسكريين و المدنيين في فترات الإنتقال و قد أدى ذلك لإنسداد الأفق السياسي مبكراً و قبل الإنتخابات لأول المرة و هذا أيضاً مخالفاً لما حدث بعد الإستقلال و ما كان يحدث بعد الثورات أما النقلة الكبرى في الغير مألوف فهي ما يجري من أحداث الآن بعد إنقلاب الخامس و العشرون من أكتوبر ولما كان اليسار و بذات الغباء ينتطر اللحظة الفارقة المتوهمة لإستئصال التيار الإسلامي عبر الشارع المغيب عن الأجندة و النوايا الحقيقية حدث إختراق جديد في عالم السياسة السودانية و هو شراكة إستراتيجية و ليست تكتيكية هذه المرة و غير معلنة بين قيادات سودانية يسارية و ليبرالية مع الجيش المتهم أيدلوجيا و هذه في تقديري هي أول شراكة سياسية في تاريخ السودان الحديث تقوم على قناعات و تراضي خارج المألوف التاريخي و هي قبول الآخر كشريك وطني له رؤية مختلفة و يجب التعامل معه و ليس عدواً يجب التخلص منه كما كان سائداً في السابق و ذاك إختراق مفصلي و بداية جديدة لها ما بعدها من بشريات قادرة على تجاوز إخفاقات الماضي و عثراته من أجل بناء دولة حديثة قادرة على مجابهة إشكالات الواقع الراهن و تجاوزها والعبور بالسودان إلى بر الأمان كدولة محورية هامة على المستوى الإقليمي و الدولي إذا أحسن الشركاء قيادتها.
إذا كان إتفاق البرهان و حمدوك كطرفين مهمين هو حالة صحية يمكن أن تؤدي إلى التعافي الوطني فإن ذلك لن يكون ممكنا إلا بضمان الطرف الأهم و هو الشارع الذي لعب دوراً محوريا في جعل ذلك الإتفاق ممكنا و من أجل تفويت الفرصة على الإنتهازيين من الإقصائيين و الإستئصاليين من السياسيين يمينا و يساراً وعسكر على الشارع أن يطرح نفسه بشكل جديد كرقيب على الحكومة الإنتقالية القادمة و ليس مؤيداً و لا معارضاً لها و كمدافع عن الدولة و حريص على بنائها و كحامي للوطن من أعدائه داخليا و خارجيا و تلك هي الحلقة المفقودة تاريخياً و أول لبنة من لبنات بناء مجتمع مدني رائد و هي الحلقة الأهم القادرة على وقف عبث الأجندات المتناقضة و المتحكمة في المشهد تاريخيا ممثلة في الأحزاب و الأيدلوجيا و الخارج و بذلك نكون قد وضعنا قدماً في سلم الصعود إلي رحاب الدولة المدنية الحديثة.
لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية في ظل غياب أو تغييب المجتمع المدني و مصطلح دولة مدنية نابع من مفهوم أن السلطة أصلاً سلطة المجتمع المدني و ليس الأحزاب السياسية يتنازل عنها طواعية لمن يختاره عبر وسائل إنتخابية متفق عليها و هو القيم عليها و هو الذي يتحكم في الدولة و مؤسساتها المختلفة و الفرصة الآن سانحة أمام شباب الثورة و لجانها المقاومة بذات الروح و بذات الحماس الثوري و بأساليب جديدة تعبر عن المرحلة و تميز بوضوح بين دورهم نحو الحكومة (رقيب) و نحو الدولة ( باني) و نحو الوطن (حامي) و أن يكونوا حجر الزاوية في بناء مجتمع مدني قادر على تحمل مسؤلية بناء الدولة و تحريرها كلية من براثن تجازبات الأيدلوجيا و الأحزاب السياسية و الخروج بها من حالة الكراهية و الصدام إلى براحات الفكر و التلاقي و التصالح و إحترام الآخر و الإلتفاف حول الوطن و مكوناته الثقافية وقيمه الحضارية الضاربةفي أعماق التاريخ، القادرة على بناء سودان جديد يسع الجميع و يبنيه الجميع تحت شعار : حرية.. سلام.. عدالة… نواصل
صحيفة الانتباهة