عابدين الطاهر
ظل القاتل المجهول منذ اندلاع الثورة في العام 2013 يتجول بيننا ويحصد الأرواح في كل موقع وفي كل طريق، ثم يعود من حيث أتى، ولا أحد يعرف عنه شيئاً.. هذا القاتل المجهول يمتلك أحدث أدوات القنص ويتسلل من بين جموع القوات الرسمية ويختار ضحاياه بعناية ولا يخطئها أبداً.. هذه المقدمة ملخص لكل البيانات التي صدرت منذ ذلك التاريخ وما تزال تصدر كلما سقط شهيد أو سالت دماء على الأرض.. السؤال الذي يبرز لماذا يظل هذا القاتل مجهولاً؟ للإجابة عن هذا السؤال نحتاج لمعرفة ماذا يدور في أرض المشهد.. في كل تلك الأحداث نجد أن الأمور قد اختلطت وغابت المهنية واختلط الحابل بالنابل، ولم يترك الأمر لأهله فقد شاهدنا في كل مرة أن القوات التي تتعامل مع جمهور المتظاهرين لم تكن كما نصت القوانين وجرت عليه العادة، فالجميع يعلم أن القوات التي يجب أن تتعامل مع الجمهور في مثل هذه الحالات هي الشرطة والسؤال: هل فعلاً أن تلك القوات كانت الشرطة؟ للأسف منذ العام 2013 وحتى قبل سقوط النظام لم تكن تلك القوات تنتمي للشرطة، بل تم الدفع بقوات لجهات أخرى ليس من أسس تدريبها التعامل مع الجمهور ولذلك كانت الخسائر في الأرواح كبيرة لاستخدامهم الذخيرة الحية مباشرة في تعاملهم مع المحتجين مما أوقع خسائر كبيرة في الأرواح وبث الرعب في نفوس المواطنين واقتحموا المنازل ولم يراعوا حرماتها وأذلوا المارة بلا وجه حق خرقاً للقوانين والضوابط التي تحكم التعامل في مثل هذه الحالات ولأنهم لا معرفة لهم بأبسط الحقوق التي تنص عليها القوانين فقد جاء سلوكهم مجافٍ للضوابط وبعيداً عن القانون واستمر المشهد بعد سقوط النظام وفي أيام الثورة الأولى، وظلت السلطات تدفع بنفس هذه القوات الخليط لتتعامل مع الجماهير دون عودة الشرطة لتحل مكانها وظل القاتل المجهول يحصد المزيد من الأرواح وسقوط أعداد إضافية من الشهداء.. الشرطة هي القوات التي تعلم أسس التعامل مع المواكب والتجمعات وهي التي تعلم تدرج استخدام القوة وتعلم أن استخدام الذخيرة الحية إن اضطرت اليه يحدث بقدر في حدود ضيقة ولا يسبب الموت للطرف الآخر وله ضوابط تنص عليها القوانين ولا يحق لأي شرطي أن يتخذ هذا القرار محدود الأثر لوحده ووفق قراره.. للأسف فقد سجلت المضابط الموثوقة أن جهات أخرى قامت بالتزيي بزي الشرطة وهي في الأصل ليست شرطة وتعاملت مع جمهور المتظاهرين في وقت من الأوقات واستمر اختلاط الحابل بالنابل.. من أكبر الأخطاء أن يوكل الأمر لغير أهله فقد شاهدنا الصورة المقلوبة لتراتيبية استخدام القوات والطبيعي أن تتعامل الشرطة أولاً ثم إذا استحال عليها الأمر واستفحل تنزل القوات الأخرى لتوليه وفي هذه الحالة تسحب قوات الشرطة تماماً وتخلي مسؤوليتها وتترك أمر التعامل للقوات المسلحة ولا يتم هذا الأمر عشوائياً، وإنما وفق نصوص قانونية محكمة وبخطوات معلومة وموثقة بتوقيع وموافقة السلطات المخولة بموجب نصوص القانون.. ما شاهدناه للأسف هو البدء بالوضع المقلوب فمنذ البداية ترك الأمر لغير الشرطة وظلت الشرطة بعيدة أو في المشهد الأسوأ أن تعمل الشرطة في هذا المسرح الخليط وبالطبع لن تستطيع القيام بعملها بالمهنية المطلوبة ويستحيل عليها تطبيق الخطوات والتدرج في استخدام القوة طالما أن بالأرض من القوات الأخرى من يعمل كما يريد وبلا التزام بتلك القيود ولذلك ظل القاتل مجهولاً، ولا يمكن الوصول اليه.. لن يقبل المواطن تلك الأعذار التي تطلقها شرطة السودان في كل مرة بأنها لم تستخدم الذخيرة الحية وسيظل يتساءل إذن من الذي أطلقها ومن الذي قتل الشهداء وسفك الدماء.. يجب علي الشرطة ألا تقبل نزول أي قوات أخرى لتتعامل مع جمهورها ومواطنيها ويجب عليها أن تصل لذلك القاتل المجهول ولا يكفيها أن تبرئ ساحتها بأنها لم تقتل أولئك الشهداء وتشارك مواطنيها الدهشة والحيرة ليزدادوا حسرة على حسرتهم ويبكون مرتين مرة هي شهدائهم ثم مرة أخرى على شرطتهم التي سمحت للقاتل المجهول أن يتجول بينهم ويتزيا بزيهم أو يقوم دون احتجاجهم بالتعامل مع المواطنين دون وجه حق ويزهق أرواحهم.. علي الشرطة أن ترفض رفضاً باتاً وجود أي قوات أخرى في أرض المظاهرات وأن استحال عليها هذا الرفض عليها أن تعود الى مواقعها وتمتنع عن الخروج حتى يعلم الجمهور أن شرطته ما زالت تتمسك بمهنيتها وترفض اختلاط الأمور ليتفرق دم الشهداء على قبائل القوات وألا ترضى لنفسها أن تكون الساتر لذلك القاتل المجهول وهذه القوات التي لا تملك حق التعامل مع المواطنين العزل.. على قادة الشرطة أن يكونوا بقدر ظن جمهور مواطنيهم فيهم ويوضحوا كل تفاصيل هذا المشهد الذي اختلطت فيه الأمور وألا يكتفوا بإنكار قتلهم للشهداء.. إن لم يحدث ذلك سيظل القاتل المجهول حراً طليقاً وسيسجل التاريخ عجز الشرطة عن القيام بدورها في التعامل مع الجمهور وأنها قبلت باختلاط الأمور وأن يقوم آخرون لا علاقة لهم بهذا الأمر بالتعامل معهم وعجزها كذلك عن الوصول لذلك القاتل المجهول والذي ما زال حراً طليقاً يتعطش لسفك مزيد من الدماء. ألا هل بلغت اللهم فاشهد والله المستعان.
صحيفة اليوم التالي