خربوش: من ليبيا إلى السودان .. أين حمرة الخجل؟

لا تشعر الدول الغربية، التى تتشدق بالدفاع عن الديمقراطية، بأى قدر من الخجل عندما تتبنى مواقف متباينة إزاء أحداث متشابهة، ودون أى اكتراث برد فعل محتمل من المتأثرين سلبا بمثل تلك المواقف المتباينة. وقد تمادت الدول الغربية فى غيّها، فلم تعد تخجل من تبنى تلك المواقف المتباينة فى نفس الفترة، ودون أن تعتمد- كما كانت تفعل من قبل- على احتمال نسيان مواقف تاريخية سابقة.

وتوضح مواقف الدول الغربية «الداعمة للديمقراطية» المتناقضة من التطورات الأخيرة فى كل من السودان وليبيا المتجاورتين ذلك التباين بجلاء شديد. ففى الحالة السودانية، تبنت الدول الغربية مواقف منددة لقرارات رئيس مجلس السيادة بإقالة الحكومة «غير المنتخبة»، واعتبرت ما حدث «انقلابا عسكريا»، وتوعدت بعقوبات قاسية، وذرفت الدموع حزنا على الديمقراطية التى وأدتها قرارات قائد المؤسسة العسكرية ضد «المكون المدنى» غير المنتخب. وتزامنًا مع هذا الموقف المتباكى على الديمقراطية الموؤدة فى السودان، استمرت نفس تلك الدول فى دعمها غير المحدود لما يسمى حكومة «الوحدة الوطنية» التى خلفت ما أطلق عليه «حكومة الوفاق»، ولم تكن أى منهما منتخبة، بل تم فرضهما من قبل القوى الكبرى المتباكية على وأد الديمقراطية فى دول أخرى مثل السودان، وبدعم من «ميليشيات مسلحة» أقرب إلى العصابات.

أكثر من هذا، تزامن مع هذا الموقف من أحداث السودان ممارسة البعثة الأممية ضغوطا على مجلس النواب الليبى- المؤسسة الوحيدة المنتخبة فى الوقت الراهن- لتعديل شروط الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها فى ديسمبر القادم، كى يتمكن رئيس وزراء حكومة «الوحدة الوطنية» من الترشح لتلك الانتخابات. وثمة ضغوط أخرى لمنع مرشحين محتملين ذوى قدر يعتد به من الشعبية من الترشح، سعيا لإتاحة الفرصة أمام المرشح المفضل لدى تلك الدول «الداعمة للديمقراطية» للفوز بالمنصب المحورى فى النظام الليبى الجديد.

ويكمل ذلك المشهد البائس أن المرشح ذا الحظوة ينحدر من مدينة مصراتة، ويحظى بدعم الميليشيات المسلحة المتحدرة من المدينة، والتى اضطلعت بالدور الرئيسى فى حماية «حكومة الوفاق» السابقة ولا تزال تمثل الداعم الرئيسى لحكومة «الوحدة الوطنية» الحالية، والتى يجهز المسرح كى يظفر رئيسها بدور البطولة فى «المسرحية الديمقراطية» التى يؤلفها ويخرجها المنددون بما حدث فى السودان من «انقلاب عسكرى» بإقالة حكومة انتقالية غير منتخبة.

وتُعيد أحداث السودان وليبيا إلى الأذهان معضلة «النخب السياسية» العربية التى تدعى اعتناق القيم الليبرالية، وهى ظاهرة تكررت فى معظم الدول العربية التى شهدت أكذوبة «الربيع العربى». لم تكن هذه النخب وفية لما تدعى اعتناقه من قيم «ليبرالية»، ليقينها بألا فرصة حقيقية لها فى أى تجربة ديمقراطية حقيقية، نظرا لتهافت شعبيتها لدى المواطنين العاديين.. ومِن ثَم تلوذ تلك النخب عادة بالقوات المسلحة مؤقتًا، ونكيل لها عبارات الثناء والمدح كى تقوم بالقضاء على النظام القديم؛ وبالدول الغربية كى تمكنها من الانفراد بالحكم، فى مقابل التزامها بالحفاظ على مصالح تلك الدول «الداعمة للحكم الديمقراطى». وعادة ما تطالب تلك النخب الديمقراطية بإطالة أمد المرحلة الانتقالية، حتى يتسنى لها إخلاء الساحة السياسية من المنافسين المحتملين ذوى الشعبية وهندسة النظام الجديد وفقا لرؤيتها.

ومن المثير للدهشة ألا تطالب الدول الغربية الحريصة على الديمقراطية وحلفاؤها من معارضى «الانقلاب» بإجراء انتخابات كى يقول الشعب السودانى كلمته، بل تصر على العودة إلى المسار الانتقالى «الطويل»، الذى يتولى الحكم خلاله من يدعون تمثيل الشعب السودانى دون وجود أى دليل ديمقراطى على صدق ذلك الادعاء. ولا تشعر الدول الغربية «الداعمة للديمقراطية» بأى قلق من استمرار حكم رئيس فى دولة إفريقية مجاورة للسودان، استولى على السلطة بالقوة، واستمر فى الحكم غير الديمقراطى باليقين منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما من خلال انتخابات مشكوك فى نزاهتها، لكونه حليف الغرب المدلل.

بقيت كلمة لكل من المتشدقين بالديمقراطية والثورية: لا يوجد ما يسمى زورًا وبهتانًا «الشرعية الثورية».. وقد يكون ذلك موضع مقال قادم.

محمد صفيَ الدين خربوش
* رئيس قسم العلوم السياسية في كلیة الاقتصاد والعلوم السیاسیة في جامعة القاهرة

Exit mobile version