“نحن شعوب تبحث دوماً عن القادة الشرفاء لكنها ما أن تجدهم حتى تفسدهم بالإذعان وتغرقهم بالدلال، ثم تلومهم بعد ذلك على كونهم بشراً خطائين يتأثرون فيتغيرون”.. الكاتبة..!
“إذا رأيت حاكماً عربياً سابقاً يتمشى في محطة مواصلات عامة في بلاده، عندها فقط سوف أقلق على مستقبل إسرائيل”. هكذا قيل إن “موشي ديان” قد لخَّصَ أدواء ممارسة السلطة في بلاد العُرْب، والعهدة على القائلين. على كل حال يندر فعلاً أن يوجد حاكم عربي أو أفريقي “سابق” حيٌ يُرزق، وإن وجد فهو – على الأقل- لن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، بعد أن صَعَّر خده للناس يوماً ومشى في الأرض مرحاً. أليس كذلك..؟!
وقد كان الأحرى بقلق المصيبة “ديان” أن يبدأ من حيث انتهى المواطن العربي، فيستشعر الخطر حقاً عندما يشاهد شعباً عربياً واحداً تخشاه حكومته، وهو ما لا ولم يحدث لأن شعوبنا – ببساطة – هي التي تؤله سادتها المسؤولين وساستها الحاكمين، بإصرارها الموروث على اعتبار السلطة “في حد ذاتها” مبرراً معقولاً لابتلاع معظم قضايا الفساد، وازدراد كل حوادث التجاوز ومواويل التقصير..!
هذا الفهم الخائب يتعمق مع نشأة المواطن العربي والأفريقي، ويتراكم وفقاً لمعدلات ساعات جلوسه أمام شاشات الإعلام الموجَّه الذي يسبح – دوماً – بحمد سادته المسؤولين، ويجتهد في تبرير أخطائهم ويستميت في تزيين زلاتهم وهفواتهم. فلا يأخذ المسكين في خاطره أبداً من ظهور بعضهم بأمزجة معتكرة وهي تمتن عليه بكثرة الأعباء والمسؤوليات، ولا ينزعج مطلقاً من تكرار بعض الوجوه التي تنذره بسوء العاقبة على أفعال ترى أنه قد يفكر في ارتكابها..!
طيب، والحال كذلك، هل يكفي أن تتغير الأنظمة؟. هل ينجح الإحلال في مقاعد الساسة إذا لم يتحقق الإبدال في قناعات الشعوب؟. لا أعتقد، والشواهد كثيرة. بعد انتصار الثورة المصرية، وقف السيد عصام شرف، في طابور الاستفتاء على التعديلات الدستورية قليلاً، قبل أن يأذن له المواطنون بتخطي الصفوف للإدلاء بصوته، تقديراً منهم لمشاغله الجمة كرئيس وزراء..!
وفي تونس تكرر ذات المشهد – أيضاً في أعقاب ثورة – عندما وقف السيد راشد الغنوشي للإدلاء بصوته، وحاول بعض المواطنين مساعدته على تخطي الطابور الطويل “كالمعتاد” لولا أن قاطعتهم هتافات بعض الغاضبين الذي لم يكن مبعث غضبهم تجاوز الطابور, بل انتهازية عودته إلى البلاد – في ذلك التوقيت – بحسبهم..!
وكذلك الحال مع شواهد مماثلة عديدة في سودان ما بعد الثورة. ويبقى الشاهد من هذا المثال أو ذاك هو سلوك المواطن الذي لم تتغيّر طبائعة التي تميل إلى الإذعان حتى في أيام عرس الديمقراطية، فالثورات التي أطاحت بالأنظمة الحاكمة في السابق لم تتمكن من تغيير ذلك السلوك الجماهيري الانكفائي الذي لا يريد أن يفهم الديمقراطية كمبدأ وأسلوب حياة قبل أن تكون نظاماً للحكم..!
المواطن الذي قاتل من أجل الثورة، قد يتنازل ببساطة عن حقه في التزام المسؤول بدوره في صف الانتخابات، والمسؤول الذي تنعقد عليه الآمال لغد سياسي أفضل قد لا ينسى ما نشأ عليه من أفكار خاطئة حول مفهوم السلطة، لذا فهو لن يغير سلوكه بلمسة زر. فالله سبحانه وتعالى – بطبيعة الحال وفصل المقال – لن يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..!
وقد كنت أتمنى أن تتوحد الهتافات يوم الحادي والعشرين من أكتوبر بشعار واحد هو “الشعب يريد تحقيق أهدافه التي أشعل من أجلها هذه الثورة”. لكن معظم الناس في مجتمعاتنا ما فتئوا يتحدّثون عن الديمقراطية وكأنها بضاعة محجوزة في جمارك الحكومة، ولسوف تفرج عنها – بمشيئة الثورات – عمليات الإحلال والإبدال سياسي، وهذا خطأ منهجي. فالديمقراطية هي أهم عناصر التمثيل الضوئي في شجرة حُكم قوامها وَعي المواطن بكامل حقه على الحاكم مطلقاً. قبل اصطفافه خلفه، أو قبل خروجه عليه..!
صحيفة الصيحة