اليوم نفسح هذه المساحة للمهندس فهد عنان، والذي نظر من زاوية مبدعة للحظة السياسية التي يعيشها السودان اليوم:
في السودان يكاد يكون كل الفضاء المدني والفعل السياسي ظاهرة حزبية بامتياز فكل أشكال بناء النقابات المهنية والعمالية، كيانات الدفاع عن المرأة أو الأطفال أو البيئة، مراكز نشر الوعي والاستنارة ومعظم اللوبيهات والأجسام المطلبية على اختلاف أهدافها هي في الأساس واجهات وأدوات حزبية، بل وحتى الإدارات الأهلية والكيانات القبلية والجماعات الدينية ظلت تصطف على أساس حزبي قبلي على مر تاريخ السودان.
إن عظمة ديسمبر الحقيقية تكمن في ذلك الوعي الذي بدا وتنامى بشكل عفوي في فترة المواكب التي صاحبت مخاض ثورة ديسمبر المجيدة هذا الزخم والوجدان الشعبي المشترك العابر للحزبية والذي وضع البذرة الأولى لفضاء مدني حفي بالتنوع وعصي على كل محاولات السيطرة والتوجيه.
إن ديسمبر وللمرة الأولى في تاريخ السودان أعطت زمام المبادرة للشارع السوداني غير المحزب فانطلقت الطاقات في الشوارع تؤسس لكل ما هو جديد ومبهج وغير مألوف وأن انتصارها الحقيقي لم يكن فقط في أنها أزالت الطاغية، وإنما في أنها أتاحت المجال لأكبر قدر من السودانيين ليقرروا في الكيفيه التي تدار عبرها بلادهم.
إن من نكد الدنيا على السودانيين أن الله ابتلاهم بقيادات سياسية لا ترى في كل هذا الزخم والتنوع والخيال الخصب والرغبة في المشاركة الا خطراً على مشروع السيطرة واحتكار المجال المدني لمصلحة أحزاب غير مسؤولة ولم تصل بعد الى مرحلة النمو والنضج الكامل.. أحزاب ذات بناء هش وقابل للسيطرة من قبل أي قلة مؤهلة مالياً أو اجتماعياً أو قلة ذات مقدرة أعلى على ممارسة المزايدة بالرصيد النضالي.
إن استمرار سيطرة الأحزاب على الفضاء المدني يعني بالضرورة سيطرة هذه القلة على مصائر السودانيين وهو ما يعني بطبيعة الحال أن تفقد ثورة ديسمبر المجيدة رصيدها الهائل من التنوع والابتكار والخيال السياسي الخصب والتوقعات العالية وهو ما ينذر بأن يستحيل الحلم السوداني العظيم مجرد مسخ هزيل مسرحية بائسة تقف الثورة وحيدة أمام رياح المتربصين من أعداء التحول المدني بسبب إصرار قلة على قطع الطريق الى ناصية الأحلام عبر لجم التوقعات العالية للجماهير.
لذلك فإنه من مصلحة ثورة ديسمبر المجيدة قيام وعي شعبي مستقل ومتسامٍ عن وعي التنظيمات السياسية المسيطرة على المشهد الحالي، وعي ذو مقدرة ترجيحية وقادر على توجيه دفة التغيير ليتجاوز جدل مخاوف ومطامع الحزبيين لخدمة مصالح وأهداف الشعب السوداني.
أنا أدعم الخروج في مواكب الـ21 من أكتوبر تجديداً لوعد ديسمبر أمام أرواح الشهداء والتاريخ ولتأكيد هزيمة العسكر والانقلابيين ولتبديد أحلام الإسلاميين بالعودة للحكم ليس ذلك فحسب، ولكني أيضاً أدعم الخروج في 21 أكتوبر من أجل أن يتمكن الشارع من استعادة زمام المبادرة ولإنهاء احتكار القلة غير المؤهلة وغير المسؤولة وفوق ذلك كله من أجل تأسيس وعي شعبي قائد وموجه ومتجاوز للحزبية.
مهندس فهد عنان
محمد المبروك
صحيفة اليوم التالي