السابق الذي إنطوت صفحته وأضحى الآن في ذمة التاريخ بكل ما له وما عليه وتقييم التجربة وفتح وتقليب صفحاتها لأخذ الدروس والعبر هو حق مكفول للجميع ومتاح لكل فرد يريد أن يفعل ذلك دون حاجة لأخذ الإذن من أحد لأن التجربة الطويلة التي إمتدت لثلاثين عاماً لم تعد ملكاً لفرد يحتكرها أو لجماعة محدودة تمتلكها وحدها بل أصبحت ملكيتها عامة لكل الشعب السوداني في كل زمان ومكان. وإن المنتمين للنظام السابق تفرقوا الآن أيدي سبأ وربما تربط بين مجموعات منهم شلة أنس هنا وأخرى هناك وحلقة مفاكرة هنا وأخرى هناك ولكنهم ليسوا كتلة واحدة صماء بكماء تدار وتحرك بالإشارة . وربما تكون قد حدثت في وقت مضي لقاءات عابرة غير رسمية وبلا تفويض بين أحد المسؤولين في السلطة الإنتقالية الحالية وبين آخر ينتمي للنظام السابق وهي لقاءات عابرة غير رسمية لا يعتد بها وليس لها تأثير ومردود سياسي ولا يصح إعتبار الحبة قبة . ويتحدث البعض عن مصالحة وطنية وهي مطلب شعبي ولكنها لا تعني العودة للوراء وقيام محاصصة بين النظامين الحالي والسابق وهذه محض أحلام وأوهام تراود بعض الذين عز عليهم الفطام وفقدان مصالحهم وإمتيازاتهم … وأن الأمن الذي فلت والأحوال الإقتصادية والخدمية والمعيشية التي ساءت الآن وتردت للدرك الأسفل لضعف قدرات عدد من الحاكمين وقلة خبراتهم السياسية والتنظيمية والتنفيذية وسوء إدارتهم وتبعيتهم العمياء للأجانب في ذيليه مخجلة وإتباع سياساتهم وتنفيذ توجيهاتهم … وإذا وجدت أصابع خفية عابثة تسعى للتخريب والتدمير فأن على الحكومة أن تقبض علي هؤلاء المجرمين العابثين وتردعهم وتنزل عليهم أشد أنواع العقاب والعذاب ولا يستبعد ان يكون عدد من هؤلاء المجرمين هم مرتزقة مأجورين وأدوات يستغلهم بعض الحانقين الغاضبين لفقدانهم لصولجانهم للقيام بهذه الأعمال القذرة ولا يمكن تعميم الإتهام على الجميع . .. والقصة الكاملة للإنقاذ بكل تفاصيلها الدقيقة وأسرارها وخفاياها وحكاياتها وقصصها وهي كقصص ألف ليلة وليلة تؤكد أن الرئيس السابق فوجئ يوم الخميس الموافق الحادي عشر من شهر أبريل عام 2019م بالإطاحة به وكان يتشبث بالسلطة ويظن أنه سيبقى في موقعه حتى آخر رمق في حياته وقد أصبح بعد ذلك حبيساً في سجن كوبر وهذا هو الوضع الأفضل بالنسبة له لأن جماعته يحسبون أنه صنيعة من صنائع تنظيمهم وقد أتوا به من المجهول وإختاروه بمواصفات خاصة ليكون برضاهم واجهة لهم ورئيساً برتوكولياً عليهم وقد ترك لهم الحبل علي الغارب ولكنه في تقديرهم خانهم وخرج على بيت الطاعة التنظيمي وطغى عليهم ومدوا له حبال الصبر طويلاً ولو لم يعد الأمور في نصابها وفق ما يشتهون وأصر علي الإنفراد بالأمر وحده من دونهم لأستمروا في وضع المتاريس أمامه وإحراجه وإضعافه ولو تمادى في تجاوزهم واستمر في السلطة فالمتوقع بل شبه المؤكد أن بعضهم لن يتوانى في تدبير خطة غامضة ومحكمة لتصفيته .
وإن للنظام السابق ما له وما عليه ومن صفحاته السوداء الفساد المالي الأخطبوطي وسجله غير المشرف في مجال حقوق الإنسان والإنتهاكات الفظيعة التي أرتكبت وما كان يجري في بيوت الأشباح وغيرها من الشواهد الدالة علي ذلك . ومن أخطاء النظام ما جرى في دارفور وأربط ذلك بمفاوضات جوبا والإتفاقيات التي وقعت قبل عام في الثالث من شهر أكتوبر عام 2020م . وظلمت دار فور في عهد الحكم الاستعماري وأهملت في العهد الوطني في مجال الخدمات والتنمية مع استثناءات قليلة مثل الحملة المحلية والعالمية التي قادها الرئيس جعفر نميري في العهد المايوي لمحاربة العطش في دارفور . وفي السنوات الماضية التي سبقت ثورة التغيير يؤكد العاملون في وزارة المالية الإتحادية وفي بنك السودان وفي صندوق دعم الولايات أن دار فور الكبري بولايتها الخمس نالت أكبر قدر من الميزانية والأموال ولا إعتراض على ذلك تقديراً لظروفها الاستثنائية ونال بنوها أكبر عدد من الوظائف الدستورية وكل شئ موثق بالأسماء والأرقام وهذا يؤكد أن ما يمكن أن يتحقق بالسلم لا يمكن تحقيقه بسفك الدماء والحرب التي لم تجن منها دار فور شيئاً غير تدمير البنيات الأساسية والنزوح وفقدان أنفس عزيزة كثيرة بريئة أغتيلت بلا ذنب جنته مع إثارة فتن عنصرية وإبتداع مسميات وصفات بغيضة ( زرقة وعرب ) .. وقد بدأت فتنة دار فور بعدد قليل من حملة الأسلحة الصغيرة في جبل مرة وغيرها من المناطق وكانوا بلا إمكانيات تذكر في المال والسلاح وبدأوا في المناوشات ولو أن صدر الحكومة وأفقها أتسع كان يمكن الدخول معهم في حوار والوقوف علي مطالبهم ورؤاهم والوصول معهم لحلول إخماداً لشرارات الفتنة في مهدها ولكن بعض كبار الدستوريين أطلقوا لألسنتهم العنان وأخذوا يطلقون شتائم كالقذائف ووصفوهم بالمجرمين وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق وقد أثار هذا غضب أهلهم وعشائرهم . وكما هو معروف فأن حركة تحرير السودان هي أول حركة دار فورية مسلحة وإنقسمت في مؤتمر حسكنيتة وقامت بعد ذلك حركة العدل والمساواة والآن فان عدد الحركات الدار فورية الصغيرة المنتظرة لنصيبها في قسمة كيكة السلطة ولو بمواقع ولائية ومحلية تفوق الثمانين حركة لكل منها قائدها . ومن الأخطاء التي اشتركت الحكومة السابقة والحركات المسلحة في إرتكابها هو قيام المقاتلون بمهاجمة مقر القوات النظامية أو الدور الحكومية وبدلاً من تحمل تبعات ردود الفعل المضادة فأنهم يهربون ويحتمون بالقرى ويتخذون من المواطنين الأبرياء سواتراً ودروعاً بشرية وفي هذا جبن وسوء أخلاق وإنعدام للمروءة والنخوة . والرد عليهم يكون بقرار سيادي وسياسي يتخذه القائد الأعلى ولجنته الأمنية ومن يقومون بالتنفيذ فهم مأمورون وليسوا أصحاب قرار وكان يفترض التريث وملاحقة المقاتلين والتضييق على من إرتكبوا الجرائم ولكن الرد الغاضب السريع ومهاجمة القري أدى لفقدان أنفس عزيزة كثيرة من الأبرياء الذين لا ذنب لهم ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قبر كل واحد من هؤلاء المظاليم الأبرياء روضة من رياض الجنة وتقع مسؤولية ما حاق بهم من ظلم على الطرفين المتحاربين . ومن الأخطاء التي إشترك فيها الطرفان هو أن الحكومة السابقة كان ينطبق عليها أحياناً المثل ( عريانة وتكسي في جيرانا ) وبدلاً عن التركيز على مشاغلها وهمومها ومجابهة تحدياتها الداخلية كانت لها إدعاءات في تغيير النظم الحاكمة في بعض دول الجوار وتنصيب رؤسائها الذين تختارهم في إثيويبا وأريتريا وتشاد وأدعوا أنهم كانوا السبب في تنصيب الرئيس إدريس ديبي ولما إختلف معهم سعوا لإسقاط نظامه بحملة تضافرت معهم فيها المعارضة التشادية وبلغوا العاصمة وتدخلت فرنسا وحسمت المعركة لصالح الرئيس إدريس ديبي الذي سعى لرد الصاع صاعين بتمويله لعملية (الذراع الطويلة) التي بلغت أم درمان وقصده من هذا الرد الهزيمة المعنوية والإنتصار الإعلامي وكان يدرك قبل غيره أنهم حتى إذا دخلوا القصر الجمهوري في الخرطوم واستولوا على الإذاعة والتلفزيون وأذاعوا بيانهم فإنهم غير مهيئين ومستعدين لإقامة حكومة تصمد لمدة يومين فقط لا ثلاثة أيام كما حدث في إنقلاب هاشم العطا . وفًقدت في عملية (الذراع الطويلة) أنفس عزيزة وتقع المسؤولية على الطرفين . وأن قيادات الحركات الدار فورية نسوا تماماً قضايا دار فور وكان همهم هو إسقاط الحكومة في الخرطوم بدعم وتحريض من دول خارجية وقوى أجنبية ولكن الحكومة الإتحادية دائماً لا تسقط إلا بإنقلاب عسكري أو ثورة شعبية أما الحروب في الأطراف فأنها تضعف الحكومة ولا تسقطها . وقد سقط نظام الإنقاذ لأن الثوار عسكروا أمام القيادة العام ولو أنهم عسكروا أمام الساحة أمام القصر الجمهوري لكانت مهمتهم أصعب وفي كل الأحوال فأن الحركات الحاملة للسلاح ساهمت في إضعاف النظام السابق واستنزافه مالياً ولكنها لم تكن هي التي قامت بعملية اسقاطه مباشرةً . أما بالنسبة لدار فور فان محصلة ما ساهمت به الحركات المسلحة في التنمية والخدمات فإنها صفرية . وما تم الإلتزام به في إتفاقيات جوبا فان كله أو جله لا زال حبراً علي الورق . ومن الأخطاء الكبيرة التي أُرتكبت في المفاوضات هو الخوض في تفاصيل دقيقة وأرقام بطريقة عشوائية بغرض دغدغة العواطف وهذه مسائل من أخص خصوصيات وزارة الحكم الإتحادي ووزارة التخطيط الإقتصادي ومصلحة أو مفوضية الإحصاء وديوان شؤون الخدمة ومفوضية الخدمة المدنية … الخ وتحتاج لعمل دؤوب يقوم به الخبراء والفنيون ولا يمكن أن القيام بعمليات يتم فيها طرح الأرقام بصورة عشوائية وتقديم إلتزامات جزافية بلا تخطيط وتدبير ولذلك فان الأستاذ محمد سيد أحمد الجاكومي بصراحته وجرأته المعهودة وجه سؤالاً مفاده هل عليهم حمل السلاح ليحصلوا على ما حصل عليه غيرهم ؟ ( ونقول للجاكومي إن كل شئ لا زال حبراً علي ورق !!) …. ويسعي البعض للكسب السياسي بالإكثار من الحديث عن الهامش والمهمشين حديثاً نظرياً معلقاً في الهواء ولكن الخدمة الفعلية التي قدمت للمهمشين تتمثل في الإنجازات الفعلية المحسوسة الملموسة التي ظل يقوم بها المواطنون في قراهم من بناء للمدارس والشفخانات ونقاط الغيار وأبار المياه والتعهد بصياناتها بالعون الذاتي والمساهمة في بناء المساجد والأندية و الخ!! وإن الخيرين لعبوا دوراً كبيراً في إقامة هذه المنشآت وساهم المغتربون مساهمات كبيرة في تقديم الخدمات في قراهم ومناطقهم ( والمسالة ليست تنظيراً و طق حنك ) ولكنها عمل وتنفيذ . ويكثر البعض الحديث عن المواطنة ونتفق معهم ونبصم بأصابع يدينا العشرة علي ذلك ويرددون ضرورة عدم تمييز دين علي الآخر وبصريح العبارة أنهم بقولهم هذا يعتبرون ان المسلمين يستعلون علي المسيحيين وغيرهم وهذه كذبة كبيرة وبهتان والسودان فيه تسامح ديني ليس له مثيل في كل دول المنطقة بل في كل العالم ولم تحدث حالة واحدة فيها إعتداء على حقوق أي مواطن مسيحي وكل المسيحيين يمارسون طقوسهم الدينية في حرية تامة وينالون كل حقوقهم السياسية والمدنية وعلاقتهم طيبة بالمسلمين . وتبلغ نسبة المسلمون في السودان 98% والاسلام ليس حكراً لجبهة أو تنظيم أو طائفة أو طريقة صوفية أو جماعة بل هو دين الجميع بكل مشاربهم الفكرية وألوانهم السياسية إذا كانوا في اليمين أو الوسط العريض أو في اليسار ونشهد بأن عدداً من أصدقائنا المنتمين لليسار والذين نعرفهم معرفة شخصية على خلق ودين .والإسلام دين عبادات ومعاملات و دين تسامح ومحبة والمؤسف أن بعض المتخاصمين قد زجوا بالدين الحنيف في خلافاتهم السياسية والإسلام يسمو علي ذلك وبعض المنادين بفصل الدين عن الدولة يفعلون ذلك بطريقة استفزازية تثير الغضب وفي كل الأحوال فإن هذه المسألة الهامة ينبغي أن تطرح بطريقة موضوعية عقلانية عند إنتخاب الجمعية التأسيسية التي سوف يتم إنتخابها بعد إنتهاء الفترة الإنتقالية طال زمنها أو قصر وإلي أن يحين ذلك الوقت نأمل عدم الخوض في معركة في غير معترك.
لقد تم الزج بتيارات في مفاوضات جوبا بين وفد الحكومة ووفد حملة السلاح وربما كان البعض يحسب أن هذا قد يكون طريقاً سهلاً وسلماً للصعود لموقع في مجلس السيادة أو غيره . والمؤكد أن أزمة الشرق الحالية سببها تيار الشرق بمفاوضات جوبا الذي لم تتم فيه مراعاة التوازنات في الشرق . ونأمل أن يبادر من هم في قيادة هذا التيار لتجميده أو إلغائه وعقد مؤتمر لكل أهل الشرق يتم فيه الوصول لإتفاقية ترضيهم ومطلب الناظر ترك في هذا الشأن معقول ولكن قفله للميناء والطريق القومي فيه تصرف غير مقبول وفيه إنتهاك واضح لحقوق الشعب السوداني وليس فيه بطولة كما قد يوهمه البعض ولكن فيه حماقة لا تليق بمن هو في مكانته وعليه أن يتذكر التصرفات النبيلة لعدد من رجال الإدارة الأهلية في بعض المواقف وأذكر منهم علي سبيل المثال حكيم الأمة الناظر بابو نمر والحكماء العقلاء الناظر دينق ماجوك والناظر إبراهيم موسي مادبو والناظر منعم منصور والناظر دفع الله محمد إمام حبوبة ….الخ ونأمل أن ينضم إلي هذه القائمة من النبلاء .. وإشتراطه لحل الحكومة فيه سابقة سيئة .. صحيح إن الجميع يطالبون بتكوين حكومة قوية بقدر تحديات المرحلة ولكن ليس رضوخاً لمطلب الناظر ترك ولو تم الإستجابة لطلبه فإن هذا يكون في المستقبل مدعاة لينادي آخرون بتغيير الحكومات بعد قفل الطرق وإقامة ترسانات !!
صحيفة الانتباهة