(1)
في مؤلفه المرجعي الذائع الصيت عن “طبائع الاستبداد” يعرف عبد الرحمن الكواكبي السياسة تعريفاً جامعاً مانعاً بأنها التواضع على “إدارة المشترك بين الناس بمقتضى الحكمة”، أو ما يمكن تعريفه بمصطلحات عصرنا بقواعد “الحكم الراشد”، تلفت لأستبين شيئاً من السياسة بمقصدها في الحكمة أو الرشد في سابق الأيام، فلا ترى شيئاً غير ضجيج الصراع العبثي غير المنتج بين “شركاء الانتقال”، فعن أي سياسة أو سياسيين تُرى يحدثنا البعض ممن تصدروا الطبقة الحاكمة الجديدة بغير زاد، لا بشيء من الحكمة، ولا ببعض من رشد، ويحار المرء إن كانوا يدركون معنى السياسة حقاً، أو لعل مسلك التنابز بالألقاب هو مبلغ ما علموا في هذا الشأن، فقد غاب عن هذا السجال العدمي أية قيمة ذات مغزى لفائدة الوعي بطبيعة المرحلة ودينامية تركيبتها ومهامها الكبرى، اللهم إلا إن كان عن جهالة أو ربما استغفال لشعب لا يؤمنون حقاً بوعيه، ولا بحقه في تقرير مصيره، ولا يعني مضغ كلمة “ثورة” سوى “قميص عثمان” من أجل سلطة عضوض.
(2)
ومن أراد أن يدرك لماذا ضاعت على البلاد سبعة عقود لم تفلح فيها طبقتها السياسية والعسكرية السلطوية، المتوارثة لصفات العجز عن التوافق على مشروع وطني لبناء أمة، أوحتى لمجرد تأسيس بعض قواعد دولة وظيفية فعّالة في حدها الأدنى، لنظر في عبرة المعارك الدونكشوتية التي جرت في الأيام الفائتة والتي طالما تكررت في تاريخ السودان الحديث، أبداً مسألة بناء أمة وإقامة دولة متماسكة بجدية في أغلب شأنها، غير الانشغال بالمعارك الصغيرة التي أورثت البلاد والعباد كل هذا الهوان، إذ لا شئ أسوأ من افتعال الصراعات المجانية، وترديد الإدعاءات الجوفاء، ومحاربة طواحين هواء بامتياز التي انخرطت فيها الأطراف المختلفة حتى أحسن البعض الظن بأن هناك حقاً قضايا ذات شأن خطير هي من أثارت كل هذه الجلبة، ولحسن الحظ أظهر الشعب أنه أوعى من أن يشتري هذه البضاعة المزجاة ولو بثمن بخس، يمكنك أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، ولكن من المستحيل أن تخدع كل الناس في كل الوقت، ومن البؤس أن يراهن أحد يزعم أنه سياسي على ما يعتبره ذاكرة سمكية للرأي العام.
(3)
ومن العبث بمكان أن يتصرف “شركاء الفترة الانتقالية” وكأنهم التقوا للتو مصادفةً، ولم يلبثوا سوى ساعة من نهار يتعارفون بينهم، حتى اندلعت هذه الملهاة المخزية، وهذه واحدة من أكبر الأمور مدعاة للتضليل المتعمّد الذي يتم الترويج له بلا وازع ولا حياء، فالجميع في مقامهم هذا بموجب اتفاق سياسي بين طرفين عسكري ومدني في ظرف تاريخي معلوم، أسس لهذه العلاقة وفق وثيقة دستورية عرّفت مهام الفترة الانتقالية، المحدودة التفويض والأجل، وحددت هياكل السلطة لإدارة يُفترض فيها توفر الكفاءة اللازمة للوصول إلى تمكين الشعب من اتخاذ قراره بنفسه في تحديد مستقبله السياسي وفق انتخابات حرة نزيهة تحدّد أوزان القوى السياسية الحقيقية وحدود تفويضها الشعبي تبعاً لذلك، ولم يترك الاتفاق السياسي ولا الوثيقة الدستورية، بغض النظر عن الاختلاف في تقيمها، الأمر سداحاً مداحاً لتدار الفترة الانتقالية وفق “مزاج” من ساقتهم الأقدار لتبوُّء مقاعد السلطة، بل رتُبت العلاقات بين جميع المكونات، وحدّدت المهام، والصلاحيات لكل الأطراف الشريكة في السلطة الانتقالية.
(4)
وهذا يعني بوضوح شديد أن هناك مرجعية وحيدة لا بديل ولا ثاني لها، أيضاً بغض النظر عن الرأي فيها، هي الوثيقة الدستورية، وهي بطبيعتها ملزمة لأطرافها “شركاء الفترة الانتقالية”، وبمجرد التوقيع عليها يعني أنها أنشأت سلطة مشتركة بالتزامات محدّدة لشاغلي مؤسساتها، وهي بالضرورة ذات مسؤولية محددة وتضامنية بالضرورة، ينتفي معها بعد ذلك أي معنى في محاولات لتصنيفها كمكونات مستقلة عن بعضها باعتبارها جزراً معزولة هذا مدني وذاك عسكري، مما كان يصلح في الجدال قبل الوصول إلى هذا الاتفاق السياسي الذي أصبح ملزماً دستورياً، وحسب هذه المسؤوية التضامنية فإن أي نجاح أو إخفاق في الوفاء باستحقاقات الوثيقة الدستورية هي مسؤولية مشتركة، كما أن أي محاولة لتبادل الاتهامات في لعبة تلاوم عبثية بشأن أي تقصير لا يمكن إلا أن تكون تعبيراً عن عدم الاستقامة، وتنصلاً وانعداماً للمسؤولية، وتأكيداً لعدم أهلية من يشغلون مناصب عامة تأكد أنهم ليسوا أهلاً لها.
(5)
مر عامان، وكما عدّدنا في مقال سابق الانتهاكات التي لم تكد تدع جنباً في الوثيقة الدستورية إلا وخرقته، وهو فعل عن سابق إرادة وتصميم وتواطؤ الطبقة الحاكمة الجديدة المحتكرة للسلطة على عدم تنفيذ استحقاقات الوثيقة الدستورية وعدم استكمال هياكلها التي لا غنى عنها، وهو ما يعتبر بلا مواربة “تقويضاً للنظام الدستوري” ظل مستمراً منذ تأسيس الحكومة الانتقالية بمسؤولية مشتركة في هذا الانتهاك الفاضح للدستور، ولم نسمع بأحد انتفض، لا داخلياً ولا خارجياً، هائجاً من أجل “التحوّل الديمقراطي”، فإذا لم يكن هذا انقلاباً بشراكة مدنية عسكرية من طبقة السلطة الحاكمة على الدستور، وعلى استحقاقاته، فكيف يكون الانقلاب، فمن قال إن من شروط صحة الانقلاب بث المارشات العسكرية؟!!! وأي تحول ديمقراطي هذا الذي يزعم الجميع به وصلاً، في ظل تغييب حتى الحد الأدنى من وجود مؤسسات السلطة الثلاث المستقلة المكتملة الأركان، حتى ولو شكلياً كما تحرص عليه حتى النظم الغارقة في الشمولية، فمن المؤكد أن الترويج لتهديد على “التحول الديمقراطي”، في ظل معركة طواحين الهواء الحالية ممن لم يعملون على تأسيس قواعد حقيقية لها على مدار عامين، لا يعدو أن يكون لهو حديث لمن شغلهم تثبيت كراسيهم.
(6)
لا يملك “شركاء الانتقال” المتشاكسون ترف الاستمرار في هذه اللعبة العبثية، وقد استبان حجم التملل في القواعد العسكرية والشعبية على حد سواء ونفاد الصبر من هذه الملهاة، ممن لا يملكون استحقاقاً ولا تفويضاً على بياض، ولا مجال لأن ترتهن البلاد لطبقة حاكمة عاجزة عن تحمل المسؤولية، ولن يجدي إصلاح هذه الحال المائل بـ”أجاويد” داخلياً ولا خارجياً، إذ لا توجد دولة محترمة تُدار بـ”التحنيس”.
خالد التيجاني
صحيفة السوداني