ومرة أخرى، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، تضجّ أجواء البلاد بأخبار انقلاب عسكري كانت المجالس وبعض صحائف وسائط التواصل الاجتماعي قد همست به من فترة قبل حدوثه، أو للدقة قبل الإعلان الرسمي عن كشفه وإجهاضه. هناك بعض الأحداث المتشابهة تلازمت مع كل ضجيج أثارته أخبار الانقلابات هذه، وتشكل هذه الأحداث المتشابهة مادة دسمة لعشاق التحليلات ورسم السيناريوهات، ولكننا لن نتوقف عندها في هذا المقال، وإنما نوردها فقط للتذكرة والتنبيه. فبالنسبة لأخبار المحاولة الانقلابية السابقة في العام الماضي، والتي ملأت أخبارها الصحف مع بدايات استعدادات البلاد للحظر الصحي بسبب جائحة الكورونا، جاء في إحدى الصحف أن”مصدراً في الاستخبارات العسكرية، كشف عن تخطيط لانقلاب عسكري بقيادة إسلاميين في الجيش وبعلم عدد من العسكريين في مجلس السيادة!”. وأيضاً، نُسبت آنذاك تصريحات لقياديين في الحرية والتغيير أنهم كشفوا مخططاً انقلابياً ضد الثورة، وأنهم أبلغوا مجلس الوزراء. ثم اكتملت تلك الدراما بحدثين آخرين، الأول مظاهرات أنصار النظام البائد أمام ميدان القيادة العامة، مطالبين الجيش بالتدخل وإسقاط الحكومة المدنية. أما الحدث الثاني، فجاء في تقرير صادر عن مشروع التوازن العسكري في الشرق الأوسط التابع لمركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يقول إن تحالف قوى الحرية والتغيير يخطط، متحالفاً مع مليشيات عسكرية، للإطاحة بالشق العسكري في الحكومة الانتقالية!، وأن الحرية والتغيير ستستثمر تواجد بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس) لتفكيك المؤسسات العسكرية السودانية وبناء مؤسسات من قوى سياسية جديدة!، وأن الحكومة المدنية تستعين بمستشارين أجانب، وتتلقى خدمات لوجستية من خمس شركات أوروبية! أما رد الفعل الرسمي على تلك الأخبار، فجاء تصريح للسيد رئيس مجلس السيادة يؤكد فيه أن قيادة القوات المسلحة بكل فصائلها تعمل في تناغم بهدف حماية الوطن والثور، ويستنكر انتشار الشائعات من جهات مغرضة تستهدف زرع الفتنة بين الجيش وقوى الثورة والتفريق بينهما، مشدداً على ثبات موقف الجيش وأنه لم يتغير بصفته داعماً للتغيير. أما بالنسبة لمحاولة الانقلاب التي أعلن عنها يوم الثلاثاء الماضي، فأيضاً تناقلت الوسائط أخبارها قبل فترة، حيث ورد في الصفحة الرسمية للإعلامية نسرين النمر أن مصدراً موثوقاً أكد للصفحة توافر معلومات مؤكدة للجيش السوداني عن محاولة انقلابية وشيكة، خطط لها ضباط نظاميون بقيادة أحد أحزاب المكون المدني! وأيضاً تكاملت الدراما مرة أخرى بارتفاع وتيرة الانفلاتات الأمنية في العاصمة والأقاليم، وأنها تتم وكأنها وفق مخطط مرسوم بعناية، وبازدياد الشد من الأطراف أيضاً بارتفاع وتيرة الصراعات الدموية بين القبائل، وبمحاولات استغلال التحركات والاحتجاجات المطلبية المشروعة في الأطراف، وخاصة في الشرق، والسعي لإلباسها ثوب المناداة بالانقلاب العسكري. وكما أشرت في السطور أعلاه، لن أدخل في تحليلات واستنباط سيناريوهات حول حدث الانقلاب العسكري، بل أقفز مباشرة إلى القول بأن أي حديث عن محاولة الانقلاب، حقيقة كانت أم فبركة أو مجرد حلم وأمنية، اختباراً أو جساً لنبض الشارع…، أي حديث أو شروع عملي لانقلاب عسكري…، هو ليس محاولة لضرب الحكومة المدنية الانتقالية، كما تدعي هذه الأحاديث، وإنما لضرب وإجهاض ثورة ديسمبر العظيمة. وهذا ليس بجديد، إذ منذ انتصارها المبهر في 30 يونيو 2019، والثورة السودانية تواجه خطر الفخاخ المنصوبة لزرع الفتنة بين قواها وبين مكونات قيادات الفترة الانتقالية، تمهيداً لتفجيرها من داخلها والانقضاض عليها. واليوم، تعدى الخطر على الثورة مرحلة الكمون إلى مرحلة الهجوم المباشر، مستفيداً من عدة عوامل، كلها يمكن أن تصيب الثورة في مقتل إذا لم ننتبه، نذكر منها ثلاثة فقط:
أولاً، ما أنجزته الثورة حتى الآن لا يتعدى إزاحة الغطاء السياسي للإنقاذ، بينما البنيان الذي بنته الإنقاذ في ثلاثين عاماً لا يزال موجوداً متماسكاً ومسيطراً على كل مفاصل الدولة، بل ويصرّف شؤون الحكم، مستخدماً كل مهاراته المكتسبة في الحفاظ على بؤر الفساد والإفساد، وفي التلاعب بقرارات الحكومة الانتقالية، وفي تهيئة الأجواء الملائمة للانقضاض وعودة الغطاء السياسي للإنقاذ بوجوه جديدة. لقد كتبنا قبل عامين تقريباً، إن انتصار الثورة سيظل جزئياً وغير مكتمل، ما دام توقف عند الإطاحة برأس سلطة تحالف الاستبداد والفساد، وغطائها السياسي، بينما جسد هذا التحالف باق ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح. صحيح، من الصعب أن يتمكن هذا الجسد المتخثر من استرداد السلطة، لكنه إذا لم يُلجم، سيواصل زعزعة وإرباك الوضع وتهديده، وأبداً لن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس، أو تتمزق. فتحالف الفساد والاستبداد لن يبتلع ضياع ما راكمه من ثروات ضخمة وهو في الحكم. وهي ثروات لم تُجنَ بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأسمال متوارث، وإنما بإستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مستقبل شبابها. وبما أن هذه الثروات لم تُمس حتى اللحظة، ويجري استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض على الثورة، وأن الجرائم البشعة التي ارتكبتها الإنقاذ لاتزال دون مساءلة أو عقاب، وفي ظل وجود مجموعات لا تزال في مواقع متنفذة وهي تدين بالولاء للنظام البائد، وتسعى سعياً محموماً للانتقام من الشعب ومن ثورته، ستكون منا غفلة قاتلة إذا لم ننتبه إلى أن تحالف الفساد والاستبداد يسعى لخلق غطاء سياسي جديد، ينقض به على الثورة، مكرراً المحاولة تلو المحاولة.
ثانياً، الأداء الضعيف للحكومة الانتقالية في تنفيذ مهام الانتقال المنوط بها انتشال الوطن من دمار وخراب الإنقاذ، والعمل على إصلاح الحال الآني، ثم الانطلاق لفتح الباب أمام المشروع النهضوي للأمة السودانية. لكن، حكومة الانتقال فشلت فشلاً ذريعاً في كل ذلك، حتى وكأن الناس انفضوا من حولها، هي وحاضنتها السياسية!
ثالثاً، حالة التشظي والانقسام وسط قوى الثورة، المدنية منها والمسلحة، وما نشهده من تراشق وخلافات بينها وصلت حد التشكيك والتخوين، لم يكبحها أو يمنعها الوضع المعقد لمسار الثورة والذي يتطلب تكاتف وتوحد الجميع أكثر من أي وقت آخر، ولم تعدها إلى رشدها نداءات أرواح الشهداء أن نحافظ على ما نصرته وروته بدمائها وأرواحها، وأن الخائن الحقيقي، هو من لا يأبه لهذا الوضع المعقد لمسار الثورة، ولا للمنعطف الخطير الذي تمر به البلاد، ويصم أذنيه عن نداءات الشهداء، وهو لا يدري، أو يدري ولا يهتم، أنه بهذا المسلك يفتح أوسع الأبواب لأعداء الثورة. وكما رددنا كثيراً، ولن نمل التكرار، صحيح ظلت النخب السودانية منذ فجر الاستقلال، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وجهوية، تتخاصم وتتصارع حقباً طويلة، لكن، آن الآن أوان أن ترتقي إلى مستوى ومصاف وروح ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، وأن تقتنع بأن خطراً داهماً يتهددها جميعاً، ويجعل الوطن كله في مهب الريح، وأن ما يجمعها، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية وإخلاص لصياغة واقع جديد في السودان، فتحت أبوابه ثورتنا المجيدة، واقع يحقق أحلامنا جميعاً في كسر الحلقة الشريرة واستدامة الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة، إنصافاً لشعبنا الذي ظل صابراً لعقود من الزمن، ولم يحصد سوى الريح.
قوى الثورة المضادة، اغترت بأداء أجهزة الانتقال الضعيف، وبتمزق وحدة تنظيمات قوى الثورة، وتجشأت فرحاً حين ظنت أن الإحباط تمكن من الثوار، وأن الفرصة أتتها لإخماد شعلة الانتفاضة، وهي لا تدري استحالة أن تطفئ جذوتها، مثلما لا تدري أن خروج شعب السودان إلى الشوارع في ديسمبر 2018، كان إعلاناً صريحاً وواضحاً برفضه مواصلة التفرج على خشبة الحياة وهي تتهاوى في كل بقاع الوطن، وترجم هذا الرفض إلى هبة جماهيرية كاسحة، ثورة كاملة الدسم، لا يقودها ولا ينظمها ولا يستغلها أي حزب أو تنظيم سياسي، ثورة حظيت بإجماع شعبي، الأول من نوعه في تاريخ السودان المستقل، وليس وارداً أن تُحسب لهذه الجهة أو تلك، ثورة يمكن أن تتعدد مراحلها، وتعترضها صعاب وعرة وانتكاسات مؤقتة، ولكنها ستواصل سيرها إلى الأمام، ثورة فجرها شباب السودان بكل طوائفهم ومدارسهم وتياراتهم، بعضهم يلامس السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن الأغلبية لم تقترب منها، تنادوا من كل فج عميق مطالبين بالتغيير لأجل تحقيق ذات الهدف في الحرية والسلام والعدالة والعيش والكرامة. فهم ذات شباب “النفير” الذي هب يومها لدرء كارثة السيول والأمطار، وذات شباب مساعدة المرضى المحتاجين في شوارع أقسام الطوارئ والحوادث بالمستشفيات، وذات شباب الصدقات وإفطار الجوعى والمعوزين في شهر رمضان وغيره، وشباب جلسات التلاوة والتفسير، وشباب المساجد عقب صلاة الجمعة، وذات شباب عديل المدارس، وشباب الأندية والجمعيات الثقافية، وشباب فرق “الكورال” الموسيقية والفرق المسرحية… وغيرهم. هولاء الشباب، بزحفهم المقدس في شوارع السودان، وبهتافهم الموحد المليء بالقيم الإنسانية الخالدة، تخطوا وصفات الثنائيات الكلاسيكية، من نوع يمين ويسار، أو رجعي وتقدمي، أو علماني وديني، وغيرها، ليؤكدوا تمددهم ليضم كل الشرائح السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية وحركة المجموعات الإثنية والقومية…الخ، وليحافظوا على جذوة الثورة متقدة، وعلى تجلياتها في وعيهم الثوري وصمودهم وثقتهم في نفسهم، واستعدادهم لإشعال الشوارع مواكب وهتافاً وحماية للثورة بالروح والدم، ولإلحاق شر هزيمة بأي تطاول مضاد أو مخططات انقلابية تتربص بالثورة، وتسعى لاختطاف الأمل وقتله. وشباب السودان فعلاً يمهل، ولكنه لا يهمل ولا تتمكن منه اللامبالاة.
والآن، لا يمكن أن يستمر العمل كالمعتاد، لا بد من وقفة مراجعة دقيقة وصارمة، ولا بد من إعادة النظر في ترتيب الأولويات، بعيداً عن التحليلات التي لا طائل منها، وبعيداً عن الملاومات والعتاب المتبادل، وبعيداً عن تكرار تحديد مواقيت لا يؤبه لها لتنفيذ هذه المهمة أو تلك، مثل الحديث الواهم حول تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وبعيداً عن محاولات التنصل من الأخطاء الذاتية القاتلة. بعيداً عن كل ذلك، وإقراراً واضحاً بأن قيادة الفترة الانتقالية كادت تفرط في الثورة، وربما “التالتة واقعة”، أرى اختصار مهام الانتقال في الأربع قضايا التالية:
الأولى: بدل الحديث العام والهلامي عن إصلاح الخدمة المدنية وإصلاح القطاع العسكري، أرى التركيز على تصفية قوى الثورة المضادة في كل المواقع المدنية والعسكرية، وتقديم كل من ارتكب جرماً إلى العدالة، بما في ذلك جرائم الفساد. أما الإصلاحات بمعناها الواسع والشامل فتترك لوقت آخر. أقوى سلاح داعم على هذه الخطوة، هو مخاطبة الشعب واحترام عقله وقوته الضاربة.
الثانية: الشروع فوراً في تكوين مفوضية الخدمة القضائية والعدلية، ومجلس القضاء العالي، والمحكمة الدستورية…، وغيرها من أجهزة العدالة، وهناك عشرات الاقتراحات حول هذا الأمر، ومئات الكفاءات التي يجب الاستماع إلى مبادراتها في هذا الشأن.
الثالثة: التكوين الفوري لمفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري، وتحديد جدول زمني لإنجاز المؤتمر الدستوري وكتابة الدستور.
الرابعة: التكوين الفوري لمفوضية الانتخابات وتحديد جدول زمني لإجراء الانتخابات.
فلتركز الحكومة الانتقالية على إنجاز هذه المهام الأربعة كأولوية قصوى لا تعلو عليها أي مهام أخرى، ولتتم مناقشة قدرتها على ذلك بكل صراحة وشفافية، فإما هي قادرة على التنفيذ، أو فلتترجل لحكومة كفاءات بعيداً عن المحاصصة السياسية والحزبية والجهوية.
د. الشفيع خضر سعيد
صحيفة السوداني