حدث هذا عصر يوم 23 يوليو 1971. يومها كنت في السوق وفجأةً سمعت تصفيق وجلبة وضوضاء وهاج الناس فجأة وماجوا وقالوا بفرح غامر النميري رجع مما يعني هزيمة انقلاب الشيوعيين عليه وقتها. والناس في فرحتهم تلك جاء لاندروفر على ظهره خمسة من الشيوعيين وهم ينادون بالمايكرفون ” هُبّوا لحماية ثورتكم من سلطة الردة الدموية ” فما كان من جماهير السوق من عامة الناس إلّا أن انقضوا عليهم قذفاً بالحجارة ، وصعد بعضهم ليوسعوا أولئك الشيوعيين ضرباً . ولن أنسى منظر البوليس وهو يحاول أن يفك الشيوعيين من براثن العامة ، ولن أنسى منظر الشيوعي الذين يلبس قميصاً أزرقاً فاتح وبأكمام قصيرة يسيل دمه وقد مزق قميصه والبوليس يعمل ” حجّاز ” وهو يحتمي بظهره.
تذكرت تلك الواقعة بعد ما سمي إنقلاباً بالأمس ( وما هو بإنقلاب ) و أنا أقرأ لأحدهم يناشد الجمهاهير لأن ” يهبّوا ” ويستخدم نفس العبارة. ثم قرأت بعدها ليساريين يتحدثون عن قوى ” الردة ” . نفس عبارات يوليو 1971 فأيقنت أنهم كملوك البربون لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً .
وبعيداً عن الفذلكات التاريخية – رغم مافيها من عِبر – اسمحوا لي موضوعياً أن أدلي بالآتي :
– أن هؤلاء المتنفذين القحاتة أقلية عدداً ، لحمتهم وسداهم حزب البعث والشيوعي وجناح مريم في حزب الأمة والمؤتمر السوداني ، وكل هؤلاء أقلية ضعيفة العدد ، وكلهم يساريون علمانيون ( بما في ذلك مريم )مما يزيد عزلتهم في مجتمع متدين ومحافظ .
⁃ لدى هـؤلاء الإنجاز الإيديولوجي مقدم على حل المشكلات الإقتصادية ، لذا تجد تركيزهم على تغيير القوانين لتتوافق مع التوجه العلماني، ولتعصبهم العلماني وتطرفهم ، وربما ضعف معرفتهم العلمية ، لا يدركون أن القانون – أيّ قانون – وليد بيئته الثقافية القيمية وهذا ما عليه العمل في كل العالم .
⁃ تجدهم يتزلفون الخارج ( والسفارات في الخرطوم أرض تتبع الدولة الباعثة للسفير بموجب اتفاقية ڤيينا ) والسفير الأماراتي أو الإنجليزي أو القائم بالأعمال الأميركي فوق البرهان وقبله ، وما يراه السفير يشكل أجندتهم هم ، وهذا يقدح في المصداقية ويقتل الوطنية .
⁃ لا حرج لديهم من الكذب وتضليل الجماهير و تبرير كل ما يفعلون. والأخطر أنهم لا يحتملون اعتراضاً ، فأنت عدوهم وخائن ( للثورة ) إذا اعترضت ، وسيسلطون عليك ذبابهم الإلكتروني ليسلقوك بألسنة حداد . وقد أفلحوا في إخافة الكثيرين كانوا من قبل يدّعون أنهم يحبون الحقيقة فسكتوا .
⁃ هم من يحتكر الحقيقة المطلقة .
⁃ الذي أضحى بدهياً أنهم قوم بلا رؤية. لا رؤية لتنمية ولا رؤية لتعمير أو إصلاح . القوم بلا تجربة . فكانت النتيجة الإنهيار في كل شيئ. إنهيار أحال حال الشعب إلى جحيم .
⁃ أتحدى من يذكر لي شخصية واحدة بين الحاكمين القحاحيت له كريزما ، بل حتى إحتراماً إجتماعياً .
الأهم الآن أن ماسُمّي أنقلاباً بالأمس كشف بجلاء الحقائق الآتية :
– أن قحت أضحت عارية تماماً من أي سند جماهيري ، بل إن الشعب كرهها كرهاً لم يجده نظام حكم السودان من قبل . ودونكم ” الردم ” الذي يُجابه به قادتها لأي كلمة يكتبونها في الأسافير .ومثال ذلك رد الجماهير وبالآلاف على من قال ” هُبّوا ” .
– لن أبالغ البتة إذا قلت إن الجماهير خذلها فشل ما سُمّي إنقلاباً بالأمس. وكان الناس يتمنون نجاحه ليخرجهم من ظُلمات وظلم وفساد وفشل الطغمة الحاكمة في كل مجال، وهذه لاتحتاج لدليل .
الأخطر أنهم تسابقوا لإعلان أنهم يريدون ما يسمونه ” هيكلة القوات النظامية ” ، ولا تعني هذه شيئاً سوى تفكيك الجيش وغرس عقيدة جديدة تناقض تماماً عقيدة جيشنا الوطني ، وتشكيله نفيراً بقوى تتبني توجهاتهم وإن تناقضت مع توجهات الشعب. وغداً سيجد ألوف الضباط في كشوفات التقاعد بصورة مذِلّة . صَرّح دون مواربة بهذه الهيكلة حمدوك وخالد سلك وآخرين . والسؤال الذي يُلح على الجميع : هل هيكلة قواتنا أجندة سودانية ؟؟ وهل هي أولوية سودانية ؟؟ الإجابة بالطبع لا .
القحاحيت ترهبهم وترعبهم كلمة انتخابات. يتحايلون عليها بوجود النازحين وما إلى ذلك من أباطيل. وقد قال خالد سلك على رؤوس الإشهاد ” الإنتخابات ما بتجيبنا ” .
لاحظ كل المراقبين أنهم ومنذ أيام شحذوا ألسنتهم وأقلامهم واستنفروا ذبابهم سَبَاً وقدحاً في البرهان وفي الجيش. إستبانت لهم ضآلة شعبيتهم بل وكراهية الجماهير لهم بعد أن أذاقوها الويلات ، فلجؤوا للدعايات السوداء التي يحسنونها وأخافوا بها الناس من قبل.
من يستحق الرثاء الآن هو من ينفق جهده ووقته في محاولات تغير النهج الماثل للحاكمين. ومن يستحق الرثاء أكثر من تُضَلّله كثرة حملاتهم في الإعلام أو السوشيال ميديا فيظن أنهم كثيرون أو يمثلون الجماهير أو ( الثورة ) .
وبعد : ليستعيد الجيش إحترامه الذي بددته هتافات ” معليش معليش ما عندنا جيش ” رغم تضحياته ، فليستلم أزمة الأمور لعام واحد ، يهيئ فيه البلاد لانتخابات تعيد للشعب سلطته .
تقديري ومودتي
دكتور ياسر أبّشر