جاءت (الجدية) أول – فرحة والديها – للدنيا في ليلة باردة من ليالي شتاء الشمالية القاسي، في واحد من بيوت قريتها الوادعة التي تنام متوسدة شط النيل .. نشأت على المحنّة وتربت بفضل نعمة الستر والصبر والعشم أحسن ترباية.. تميزت بالتفوق بين أترابها ونديداتها في الأسرة الكبيرة، وجمعت بين ثلاثية حلاوة الخلقة والأخلاق وبريق التفوق، فحق لجدتها أن تتعوجب بها وتدللها بـ (الجداية الشاطرة في القراية).
كونها أكبر أخواتها أتاح لها فرصة المشاركة في رعايتهم وتلبية احتياجاتهم صغارا، والاشراف والمتابعة المباشرة لكل ما يعترض سبيل حياتهم من مشاكل عندما كبروا، وكانت الأقرب إليهم طوال سنين نشأتهم فنالت بذلك القرب نصيب الأسد من احترامهم قبل محبتهم التي غمرتها وفاضت حنان ومحنّة ..
ولكن لأن دوام الحال من المحال، فقد تغير الحال مع (الجديّة) بين ليلة وضحاها، فبعد أن كان حلم حياتها الالتحاق بالجامعة والقدلة بين ردهات جامعة الخرطوم، جاءتها الرياح بما لا يشتهي السفن، عندما توفت والدتها وهي تضع مولودها التاسع والحتالة، كما وعدت الطبيب عندما حذّرها من مغبة الحمل والولادة لمن في سنها، وشاءت الأقدار أن تفي بوعدها بصورة مغايرة فغادرت الدنيا في لحظة دخول مولودها الأخير إليها ..
قررت (الجدية) دون تردد ترك المدرسة للعناية باشقائها وحضانة أصغرهم، فمرت السنوات وتعاقبت عليها وهي مشغولة عن نفسها بمسئولياتها الجسام، فتغيرت طبيعتها الهادئة الوديعة، وحلت محلها أخرى قوية صلبة هميمة مهمومة بغيرها .. رفضت كل العرسان الذين تقدموا لها خشية من أن تلهيها الحياة الزوجية عن واجبها تجاه اشقائها، والوقوف بجانب والدها لتآزره وتتحمل عنه عبء المسئولية، عندما تآمر حزنه على شريكة حياته مع هم (الرباية) وتعبها فأقعده قبل الأوان، في الوقت الذي كان فيه أنداده يزرعون ويقلعون في أمانة الله ..
مرت سنوات العمر سريعا، ورسمت سكين الزمن بقسوة خطوطها على ملامح وجه (الجديّة) الوضيئة، ولم ترحم دواخلها من تلك التغيرات والخطوط، فقد قست (الجديّة) وصارت بحكم مسئولياتها صعبة المراس، حادة الطبع، حارة النفس، فولّدت سخونة طبعها لها لقبا عندما صار الجميع ينادونها بـ (جديّة الحربيّة).
مع مغادرة اصغر اخوتها ليلحق بركب الدارسين من أولاد القرية بالخرطوم، تقدم لـ (الجدّية) عريس أرمل مقاس (خمسين) .. كان كث الشارب موفور العافية قوي البنية عريض المنكبين، لا يعيبه – كما أخبرها من توسط له في الخطبة – سوى أنه يسرع للتفاهم باليد عندما يستفز أو يعجزه المنطق، وذلك من ما لا يعد عيبا مع فيض الرجالة الذي يسري في عروق أهالي تلك المنطقة المتحمشن أهلها ..
أقيمت الأفراح وأضاء السرور فضاءات القرية فسهرت تغني وتعرض لمدة أسبوع حتى أقبلت الليلة الكبيرة .. جلست (الجديّة) تغالب الضحك والبكاء وتتجمل بالهدوء والروقة خاصة بعد أن جاء العريس محاطا بأصحابه ويحمل سوطه الطويل، فأفرد له ليجلس بجوارها ..
بدأت الحفلة وصدح الفنان فتقافز الشبان وتسابقوا للعرضة، وهنا تقدم من (الجديّة) فتى من اقاربها كان يافعا هزيل البنيان .. تقدم وهو يبشر ضاحكا، فهب العريس واقفا لملاقاته وبشّر معه (بشرة) واحدة، قبل أن يهوى بسوطه على ظهره فجأة، تكوم بعدها المسكين على الأرض كـ (الدلقان)، فلم يكن يخطر ببال (الفتى) أن التقدم للعرضة مع العريس، يعني في عرف كتيرته طلبا لـ (البطان) !
انتفضت (الجديّة) يسبقها قلب الأم التي تعرض صغيرها لاعتداء غاشم، والتفتت إلى العريس بكل مافيها من ثورة وغضب وأمسكت بتلاليبه وهزته بعنف حتى طارت طاقيته وسقطت من فوق رأسه، وقالت:
ماحط الولد ده مالك ؟ قدرك وللا لحم سدرك ؟!!
تخريمة:
لم تتسبب غضبة العروس المضرية في فرتقة الزواج، فقد اعجب العريس بتغلب طبع الأم في (الجديّة)، فهذا القلب الحنون هو بالضبط ما كان يبحث عنه ليحتوى صغاره الايتام .
[/JUSTIFY]
منى سلمان
[email]munasalman2@yahoo.com[/email]