سؤال راتب، يطرحه عليّ الكثيرون أينما ذهبت: (لماذا لا تكتبين في السياسة)؟.. فالبعض يعتقد أن الكاتب الصحفي الذي لا يتطرق لقضايا الساحة السياسية يعد من سقط متاع الصحافة!.. وهو بالمقابل لا يجد حظه الكافي من الشهرة وتقدير القراء ولا حتى وضعه المعنوي والمادي كصحفي.
هذا السؤال لم يمثل لديّ يوماً هاجساً، ولكن تجدونني ملزمة بالتوضيح لهؤلاء الغلابة الذين يستقطعون ثمن الصحيفة من قوت عيالهم ثم يحدث ألا تكون كتاباتنا مرضية لطموحاتهم ولا معبرة عن معاناتهم.
إنني ببساطة لا اكتب في السياسة لأنني أعتقد أننا لسنا محترفين في هذا المجال، ولا تنعم بلادنا بخط سياسي واضح يمكن ملاحقته.. كما أن كتاب السياسة لا حصر لهم ولا عد، وهم يقتلونها كل يوم بالبحث والتحليل بما يكفي.
كما أن القضايا الاجتماعية التي أطرحها تخرج من كل البيوت السودانية البسيطة بإنسانها الكادح.. بينما تخرج السياسة وهي تتهادى من القصور والأحياء الراقية، وهو ما لا قبل لنا به، ولا طاقة ولا علم لنا بشكل الحياة هناك.
إذاً، دعوني رجاءً أواصل اندياحي الهادئ الحميم بكل صدق وشفافية.. فالسياسة ترغمك أحياناً على الخروج عن عباءة مبادئك وتدفعك لصناعة العبارات وانتقائها.. وكم من كتاب سياسيين لا يتعدون كونهم أبواقا للنظام، حتى وهم يتشدقون بالانتقادات الحادة له. فهذا قد يتم وفق اتفاق غير معلن بضرورة التنفيس عن الشارع العام عبر ما يكتب بينما يظل ما بين الكاتب والنظام الحاكم (عامراً)..! وللعمار هنا أبعاد لا قبل لي بتفصيلها والحديث عنها.
ولكم أن تعلموا أن بلاط صاحبة الجلالة هذا ليس بالمثالية التي قد يظنها بعضكم. لقد ظننت، أنا، يوماً أن دنيا الصحافة هي المدينة الفاضلة، ولكنني بدأت أتعلم في كل يوم درسا جديدا من دروس الجحود والغدر والحسد.. فهنا يضيق المجال بالعشرة والعلاقات الطيبة ومعاني الزمالة والإخاء ليقتصر على من رحمهم ربهم فظلوا برغم كل شيء على إنسانيتهم.
ثم عن أي سياسة تريدونني أن أكتب؟.. الغلاء أم التقشف أم المتغيرات الكثيرة المتلاحقة التي لا تهدأ؟!.. هل نكتب عن الفساد الذي لم تحسم قضاياه أم عن السلم التعليمي الذي أثبت فشلة أم عن الشباب المهدرة طاقاته على الطرقات؟.. أم أن هذه لا تعد أموراً سياسية وتقتصر السياسة على البروتكولات والمباحثات ومجالات التعاون المشترك والاتفاقيات الإطارية فحسب؟.. أفيدوني.. فلم أعد أعرف تحديداً ماهية القضايا السياسية العالقة أو المطروحة!!!
وأعتقد أن ما ننداح فيه من قضايا الناس ومشاكلهم وحتى مشاعرهم له، جمهوره العريض وهو ما نراه في تقدير العديدين أينما ذهبنا.. ولو كان البعض يرى في ما نكتبه مجرد لغو وترهات، فإننا والحمد لله نرى القبول في الكثير من العيون.
وإن لم نكتب عن السياسة والسياسيين فذلك كوننا نرى أن سيد المواقف السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو هذا الإنسان في كامل إنسانيته قبل أن تتغول عليه الدنيا بغرورها وتغويه بالتنكيل بالناس ومحاربتهم في أرزاقهم.
أقول هذا وأنا لم أتعمد يوماً أن أنأى عن المشهد السياسي ولكنني أحاول أن أراه من زاوية مختلفة.. ولا أعتقد أن ما نتطرق له هنا ببعيد عن السياسة، فكل تفاصيل حياتنا تمر عبرها طالما يتقاطع معنا تحرير الدولار هناك.
وللذين يمعنون في التقليل من شأن الكتاب الاجتماعيين أقول إن الوحيد الذي من حقه وضع تقييم موضوعي لما نكتبه هو القارئ.. هذا المغلوب على أمره السياسي، والذي يحاول جاهداً أن يوفر مستلزمات أبنائه دون أن يتوقف كثيراً ليتعرف على أعضاء مجلس الوزراء الجديد كونه يدرك أنهم سيلبثون قليلاً ثم يغادرون مقاعدهم الوثيرة ليتركوها لغيرهم بعد أن يكونوا قد اكتسبواً وزناً إضافياً.. بينما يظل رغيف الخبز على وزنه إن لم يتضاءل وتظل الأسعار في ارتفاعها المطرد الذي لا يتراجع.
إنني باختصار أكتب عن السياسة.. ولدي انتمائي السياسي القوي لحزب (الرغيف).. حزب الأغلبية الصامتة.. التي لا يستوعب معظمها لغة السياسة ولكنهم يتحدثون جميعاً لغة الجوع بطلاقة.
تلويح:
سيادتك بتعرف عن سياسة الحب شنو؟
[/JUSTIFY]إندياح – صحيفة اليوم التالي