الخميس الماضي أشرنا إلى موسوعية العبادي الذي كان مشغولاً في ذلك الوقت البعيد من عشرينات وثلاثينات القرن الماضي بالشعر القومي بمعني الذي يعبّر شعبياً عن حياة الناس والبيئة المحلية مع الاهتمام بترقية مفرداته وأساليبه تعبيراً عن مجريات الحياة السودانية في توازٍ مع دعوة حمزة الملك طمبل..وحيث إن العبادي كان بصيراً بالمجريات السياسية فقد كان ملمّاً بما يدور في أجواء الحركة الوطنية ومواقف الوحدويين والاستقلاليين..وله آراء حول الحكم الثنائي؛ وكان متابعاً للثورة الوطنية في مصر في أعقاب عام 1919 وبعد أن امتدح التضامن بين مصر والسودان ضد الانجليز انقلب على هذا الموقف وفق ما بدر من الساسة المصريين ومعاهداتهم مع بريطانيا بشأن السودان.. وقلنا انه رمز لذلك في أغنية (نظرة يا ظبية السلام..تبقى من هجركم سلام) وقد لعب العبادي على كلمتي (ظبية السلَم) و(ظبية السلام) حيث يمكن إشباع المد في السلَم لتصبح السلام حتى يتجه التعبير لظبية ترعي في (شجر السَلم) بدلاً من ظبية السلام إذا دارت مساءلات حول القصد السياسي..!!
والأغنية مضمّنة بإشارات رمزية ويجمع في مقاطع منها بين (ذم بريطانيا) و(مناشدة مصر) الجارة القريبة: (نرجو بي حرمة الجوار..نبقى لي معصمك سوار) ومنها: (الغرام عامل احتلال/ والهجُر هذا مش حلال/ رشفة من نيلك الزلال.. فليعش حاجبك الهلال)..(العيون نومهن رحل..والفؤاد أضحى في محَل.. وإنتي في اقرب المحل.. حظي سواك زي زُحل)..! ثم قال عن مصر في مرحلة لاحقة: (حواة الريف حديثم كان سمر نادينا/ بي يحيا ويعيش احمد فؤاد نادينا / حبل الوحدة مدوهو ووكت شدينا/ فكوه..ولقينا الدابي في ايدينا)..!
غير هذا كانت أغنيته التي استهل بها تدشين أغنية الحقيبة آية في التجديد.. ولا يخفى أن أداءها بواسطة سرور (الذي اكتشفه وشجّعه العبادي) كانت طفرة في الميلودية الغنائية ولا زالت إلى اليوم تتولّد عناها المازورات اللحنية الصادحة (ببكي وبنوح وبصيّح.. لي الشوفتن بتريّح) ولك أن تلاحظ تشديد الحرف قبل الأخير في نهاية كل مصراع.. لتتبيّن مدى أسر اللحن وحلاوة التنغيم الذي يسعف باتكاءة جميلة قبل (القفلة)…! وارجع لتسمع كيف كان يؤديها بادي محمد الطيب…. وفي هذه الأغنية تظهر طلاقة التعبيرات التي انفكت من مفردات الحومبي والطمبرة: (في غدوتي وباكرتي.. دايما مقدم كرتي..ما بتسلو عن ذاكرتي.. يا اللي صفاي عكّرتي..!! هذا بعد الاستهلال الجميل (فرع النقا المميّح..منو المسك بفيّح..قبال صباحنا يبيّح..بلبل قلوبنا يصيّح)..(يا جنّة الطبيعه..إياك زهرة ربيعا..صَحت شراها وبيعا..عينيك حروب ربيعة (امتدت حرب ربيعة 40 عاماً) (ختموا البروق ورعودو..تغريد بلابل عودو.. نظروا الخلوق لي عودو..وجافا المنام مبعودو).. وفيها تأثيرات لغة الحرب العالمية (آه لو قطوفك دانيه.. ولو احظي بيك فد ثانيه.. أنا كنت أعصى يا غانيه.. وأعلن فيالقي ثمانيه) ثم: (الجيدو طال واتنى.. ودر جماعة متلنا.. التوب شبك في التنّه.. ياخوانا نحنا كِتلنا).. والِتنّة هي طية من طيات الجسد في بعض المواضع…! وتنعكس على الأغنية الروح الفكهة للعبادي مع التحكّم في مقاليد اللغة (لابس الحِشم أزمّه.. ومالك ملايين ذِمه.. الحاشا ما بنذما… ضيّع اخوك بالذمّه..)..!!
في قصيدته (يا موفورة النفل) يختط العبادي كعادته لغة بديعة بين الدارجية والفصحى (تفصيح الدارجية وتدريج الفصحى) وتظهر جرأته في استخدام المبنى والمعنى معاً؛ وفي ذكر فرادة وتفرّد معشوقته عن صويحباتها في أغنية (يا موفورة النَفَل.. يا الهيبة الكست الحِفَل) يخاطبها بقوله: (ليك في الجمع الحَفَل.. نسبة راد من طَفَل) وهذه العبارة الغريبة لم يتعثر في ترديدها مطربو الحقيبة ولا منعت انتشارها بين الناس.. وهو يقصد أن نسبة فتاته للأخريات كنسبة الصباح للظلام.. ويستخدم العبادي رأد الضحى مخفّفة (راد) وهي رائعة النهار؛ أما كلمة الطَفَل في القواميس الفصيحة فتعني جنوح الشمس نحو الغروب وبداية الظلام.. هذا على سبيل المثال من تصرُّفاته التي لا تُحصى في المزج بين العامية والفصحى.. وإلى جانب ذلك كان الرجل عالماً بما يدور في قاع المدينة وأحوال (أهل الكيف) وما يجري سراً في المجتمع ومن ذلك انه كان دقيقاً في وصف حالة مدخني (حشيشة البنقو) وقد قدم صورة تغني عن التفسير مخاطباً (السجارة) التي كانت توصف بالخضراء (يا الخدرا دُخانك عَتَم/ في الجو معلّق زي خَتمَ / ما خاتي لو سيدك كَتَم / في راسو دلوكه وشَتَم)..!!
صحيفة السوداني