ضياء الدين بلال يكتب:الأزهري ولَجنة التّفكِيك..!
-١-
قِصّةٌ مُعبِّرةٌ وعَميقةٌ، تُروى عن الزعيم الوطني إسماعيل الأزهري، جَرَت وقائعها في ستينيات القرن المَاضِي.
في نَدوةٍ سياسيّةٍ بنادي العُمّال بالخرطوم، تَحَدّثَ الوزير الاتحادي صالح محمود عن بعض الشؤون الاقتصادية.
وفي نوبة حماسية مُفاجئة، فرضتها مناخات اليسار الاشتراكي، صرّح الوزير بأن حكومته عازمة على تأميم الشركات الأجنبية.
بلغ ما قاله الوزير، الزعيم الأزهري، فغضب لذلك وقرّر على الفور عزل الوزير.
لتخرج صحف الغد بخبرين مُثيرين للدهشة والتعجُّب..!
على يمين الصفحة الأولى، خبر ينقل تصريح وزير التجارة بندوة نادي العُمّال عن تأميم الشركات الأجنبية.
على شمال ذات الصفحة، خبر إقالة الوزير (إلى من يَهمّه الأمر سلام)..!
-٢-
هَاجَت ومَاجَت قيادة الحزب الوطني الاتحادي، وتَعَالَت الأصوات مُتّهمة الزعيم بالديكتاتورية والانفراد بالقرار.
ماذا كان رَدّ الزعيم الأزهري؟!
قال لهم رئيس الحزب: (هذا قرارٌ لا يُحتمل التأجيل الغرض منه حماية الاقتصاد السوداني ، لو خرج خبر الوزير دُون خبر إقالته، لشرعت الشركات الأجنبية في تهريب أموالها خارج السودان، ولتعرّض اقتصاد البلاد لأزمةٍ كارثيّةٍ)!
ورغم التَحسُّب الفطن لرئيس الحزب ، ومُعالجته الفورية الحَاسِمة، إلا أنّ بنك باركليز البريطاني، قرّر إيقاف بناء فرعه الرئيسي بشرق أفريقيا في السودان.
-٣-
تحرّكت الحكومة لتوقيف ذلك القرار الصادر من رئاسة البنك في لندن، وكانت حجّتها القوية أنّ الوزير الذي أطلق ذلك التصريح قد تمّت إقالته.
ماذا كان رَدّ البنك..؟!
قالت إدارة البنك في رَدِّها: (الوزير أطلق شعارًا تلقّفته الجماهير، إذا لم يصدر قرار التأميم اليوم، لا يُوجد ما يمنع صدوره غداً، في ظل حكومة أخرى)..!
صدقت توقُّعات إدارة بنك باركليز بعد سنوات قلائل من ذلك التّصريح..!
-٤-
عقب انقلاب مايو، بشراكة يسارية بين الشيوعيين والقوميين العرب، اُتّخذت قرارات خطيرة لا تزال آثارها التدميرية مُستمرّة إلى يومنا هذا.
مايو في حالة هياجها الثوري وتقليدها الأعمى للتجربة الناصرية، قامت بتأميم أهم مُؤسّسات القطاع الخاص.
ونَصَبَت منابر ثورية ولجان تحقيق، لمُحاكمة رموز النظام الديمقراطي المُنقلب عليه وتصفية الشركات الأجنبية والخاصة.
ظلّت (حفر) بناء الفرع الرئيسي لبنك باركليز بشرق أفريقيا بشارع القصر في الخرطوم لسنواتٍ، مَرتعاً للأوساخ ومياه الأمطار وتوالد البعوض والذباب..!
-٥-
تذكّرت كل ذلك أثناء قراءتي لمقال للأستاذ عادل الباز، كتب قبل أيّامٍ بماء الذهب، تحت عنوان (لجنة تفكيك الاقتصاد).
حيث كتب الباز:
(بدأت لجنة التفكيك ضرب النظام البنكي بتجميد أموال المُشتبهين بشكل عشوائي فماذا حدث..؟ هربت الأموال من البنوك لتتخذ من الدولارات والذهب ملاذاً آمناً، فأفقرت البنوك، وقريباً ستحدث أزمة الكاش مرة أخرى بشكل مأساوي.. توقّفت البنوك عن التمويل فالتضخُّم أكل رؤوس أموالها مُضافاً إليها كارثة التجميد، فانتهت البنوك إلى صرافات وكناتين للمُتاجرة بالدولار لا أكثر)..!
-٦-
نعم، مُحاربة الفساد وتفكيك كل ما بُني على باطلٍ واجبٌ وطنيٌّ وثوريٌّ وأخلاقيٌّ، التقاعُس عنه إِجْرامٌ في حَق الشّعب وتجاوُزٌ لمطالبه المُلِحّة.
مثل ذلك المشروع يحتاج للحِكمة والبَصَارة والدِّقة الجراحية المَاهِرة، وقبل ذلك نظافة اﻷيدي وسلامة النوايا واستقامة الأخلاق..!
حتى لا تُرجّح الخسائر على المكاسب، وتفسد الشعارات بسُوء التطبيق وتلوُّث الجراح بالمشارط غير المُعقّمة ويصبح العلاج أخطر من المرض..!
-٧-
مُحاربة الفساد لا تقتضي الحماسة الثوريّة فقط، وامتلاك روادع السُّلطة، ولكنها تحتاج مهارات جراحية فائقة، لتجنُّب الآثار الجانبية المُدمِّرة..!
مهارة تمكّن من استئصال الأورام السرطانية، دون إلحاق ضررٍ بالأعضاء الحيوية.
إجراءات تردع الفاسدين وتنتزع ما نهبوه ولكن دون أن ترهب المُستثمرين وتفسد مناخ الاستثمار.
ذلك بالترخُّص والتساهُل في انتهاك الملكية الخاصّة، عبر قرارات إدارية مُسيّسة، لا إجراءات قانونية عادلة ومُنصفة.
-٨-
المُصادرات الجزافية سترعب كل رجال المال والأعمال، حتى غير المُستهدفين بالإجراءات.
فرأس المال بطبعه (جَبَانٌ) يخشى المُفاجآت، ولا يأمن على نفسه بيئة لا تحمي الملكية الخاصّة بالقانون، ولا تُراعي قيم العدالة.
– أخيراً –
الإجراءات العَدليّة التي تُؤسِّس قواعد دولة القانون، قد لا تُحقِّق نشوة اللحظة الثورية وتُحظى بالتّصفيق، ولكن حَتماً ستفوز باحترام التّاريخ ورفع قُبعات الأجيال القادمة.
صحيفة السوداني
ماذا تنتظرون من حكومة المواسير ..
لا شيء سوى الدمار والذيلية والتبعية ..
ما يزال هناك من يقول شكرا حمدوك .. ونحن نشكر من شكر حمدوك .. ومن لا يشكر حمدوك فليشكر اردول ..
كلام في الصميم