تاريخ شاهد وذاكرة لا تنطفيء

يظن البعض أن ديسمبر هي من اسقطت النظام، ولكن الصحيح أن ديسمبر هي قمة جبل الجليد، هي الضربة القاضية التي سبقتها ضربات وضربات، المعركة ضد نظام الانقاذ مرت بمراحل متعددة، منيت فيها الانقاذ بهزائم متعددة وعميقة انتجت في نهايتها الثورة الشاملة.

الأحزاب السياسية ظلت في كل هذه المراحل حاضرة ومناضلة، وهي لا تنسب التغير في الانقاذ إلى نفسها رغم أنها حاربت الانقاذ في كل الساحات سواء بالسلاح أو الكلمة أو الهتاف أو المظاهرة أو الضغط الدولي، وربما هذا ما يجعلها غير متحمسة للتعامل مع النتيجة النهائية التي انتجتها هي نفسها، نتيجة ان الثورة يجب أن تمضي إلى النهايات المنطقية التي اتفقت عليها الأحزاب المعارضة في فرماناتها ووثائق تحالفاتها السابقة لسقوط النظام، وهو عجز مخجل لا يساوي ما انجزته هذه الأحزاب من مسيرة نضالية مشرفة.

أولى الهزائم التراكمية التي حققتها المعارضة السياسية ضد نظام الانقاذ هي انتزاع حق الأحزاب السياسية في الوجود، فالإنقاذ جاءت كانقلاب على الديمقراطية الانتخابية، ووصفت الحزبية بما وصفت من سوء وقبح، واصدرت فرمانات بحل جميع الأحزاب السياسية ومنعها من النشاط والوجود، ولكن نتيجة للعمل السياسي الداخلي والخارجي للمعارضة السودانية انهزمت الانقاذ في هذا المضمار واعترفت الإنقاذ في عشريتها الثانية بالأحزاب السياسية وسمحت لها بالعمل، صحيح كانت مساحة الحرية ضيقة جدا وكان استهداف قادة وكوادر الأحزاب السياسية مستمرا بلا انقطاع ولكن انتزاع الأحزاب لحقها في النشاط السياسي العلني كان انتصارا له ما بعده.

الهزيمة الثانية، حين جاءت الانقاذ رفضت تماما الحلول السلمية وصرح زعيمها البشير بقوله الشهير: ( نحن جينا بالسلاح والعايزنا يجينا بيهو)، بالفعل حملت المعارضة السلاح عبر تحالف التجمع الوطني الديمقراطي وتكونت جيوش حزبية متعددة مثل جيش الأمة للتحرير ذراع حزب الأمة القومي، جيش الفتح الذراع العسكري للاتحاديين، قوات التحالف السوداني، قوات البجا، قوات المجد للحزب الشيوعي بالإضافة إلى قوات الحركة الشعبية، وقد استطاعت هذه القوات استنزاف الانقاذ وارغامها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات وإدارة حوار مع الاخرين وأنتج هذا عددا من الاتفاقيات مثل اتفاق جيبوتي الخاص بحزب الأمة، اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية، واتفاقية القاهرة مع بقية أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي.

الهزيمة الثالثة هي هزيمة المشروع الانقاذي الفكري، تحدثت الانقاذ بأنها جاءت بمشروع اسلامي رسالي وأنها تريد أن تطبق هذا المشروع و لو ادى إلى إراقة الدماء على الطرق (فلترق منا الدماء أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء)، تحت الضغط السياسي تراجعت الإنقاذ عن هذا المشروع في مرات عديدة وصرح قادتها في مناسبات متعددة بأن لا علاقة لهم بتنظيم الإخوان المسلمين.

هزمت الإنقاذ في محطات أخرى متعددة، هزمت في معارك اتحادات الجامعات، هزمت في معارك السياسة الدولية حيث تمكنت المعارضة من خنق الإنقاذ بالحصار والعقوبات، هزمت الانقاذ اخلاقيا عبر تعريتها وفضح ممارساتها من فساد وتمكين وظلم بواسطة الخطاب المعارض القوي.

هذه الهزائم لم تكن خبط عشواء وإنما انتجها فعل معارض سياسي قوي، وكانت النتيجة النهائية هي تراكم الغضب والحنق الشعبي حتى انفجر في ديسمبر ٢٠١٨، لذلك من غير الطبيعي حديث البعض عن ثورة بلا ماض، ثورة بلا جذور، ثورة بلا تاريخ ولا ذاكرة، وإنما الصحيح أن لهذه الثورة ماض نضالي عريق، وجذور ضاربة في أعماق الكفاح، وتاريخ شاهد وذاكرة لا تنسي ولا تنطفيء.

صحيفة التحرير

Exit mobile version