الثمن الذي ندفعه حين نتبع نظاما غذائيا غير صحي لسنوات.. هل يمكن تعويضه؟

الثمن الذي ندفعه حين نتبع نظاما غذائيا غير صحي لسنوات.. هل يمكن تعويضه؟ قد تكون مثل كثيرين، قضيت أعواما لا تكترث بما تتناوله من طعام، البطاطس المقلية والوجبات السريعة والسكريات والمشروبات الغازية والشوكولاتة (وبين مكوناتها زيت النخيل) والمعكرونة هي طعامك المفضل، الحلوى حاضرة في كل المناسبات السعيدة، مع قدر قليل ربما من البروتين وقدر أقل من الخضراوات. وربما بعد أن أيقنت بالضرر الواقع على جسمك جرّاء عدم تناول أغذية صحية، بداية بالسمنة وما يتبعها من احتمالات الإصابة بالأمراض الأخرى، تتساءل عما إذا كان من الممكن لاتباع نظام غذائي صحي أن يُعوِّض الجسم عن سنوات من الإهمال أم أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء؟ وهل هناك آثار طويلة المدى لتقصيرنا في تناول غذاء صحي؟ حسنا، لنبدأ بتوضيح الحقائق.(بحسب الجزيرة ) لا يتعلَّق الأمر بإنقاص الوزن لمجرد الظهور بجسم مثالي رشيق، فأول ما عليك مراقبته لتعرف ما تُحمِّله جسمك من ضرر هو دهون البطن، ثم نسبة الكولسترول ومستويات الدهون الثلاثية وضغط الدم، ومقاومة الإنسولين (سكر الدم) الذي يُنذر باحتمال الإصابة بمرض السكري. عليك مراقبة العديد من الجبهات إذن لتعرف الضرر الناجم عن عدم تناول الطعام بصورة صحيحة لفترة طويلة، لا تنسَ أن طعاما غير صحي في الماضي يعني أيضا الحرمان من فوائد الطعام الصحي، فأنت بالتأكيد لم تتناولهما معا. من بين كل تلك العلامات تبقى العلامة الأكثر وضوحا التي تُخلِّفها سنوات من اتباع نظام غذائي كارثي هي تراكم الدهون في البطن (الدهون الحشوية)، تتسرَّب هذه الدهون لتختبئ بين الأعضاء الداخلية مثل الكبد، مُعرِّضة الجسم لخطر الإصابة بالعديد من الأمراض؛ مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري وارتفاع ضغط الدم وبعض مشكلات الجهاز التنفسي ومرض السرطان، وفي هذا السياق، خلصت دراسة نُشرت في دورية “Annals of Internal Medicine” (مجلة طبية أكاديمية تنشرها الكلية الأميركية للأطباء) إلى أن دهون البطن ترفع نسب الوفاة أكثر مما تفعل السمنة. (2) على جانب آخر، تتسبَّب الكربوهيدرات المعالجة (تلك التي أُزيلت الألياف منها مثل الخبز الأبيض والمعجنات والمعكرونة) في ارتفاع نسبة السكر في الدم بسرعة، كما تُعَدُّ الدهون غير الصحية سببا مباشرا لأمراض القلب، التي تُعتبر أكثر أمراض العصر الحديث انتشارا، إلى جانب مشكلات أخرى مثل الالتهاب المزمن وتصلُّب الشرايين الذي ينتج عن ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم، وتراكم الترسُّبات على جدران الشرايين مما يؤدي إلى تضييقها، فيصعب تحرُّك الدم في الجسم ما يزيد من الضغط على القلب والأوعية الدموية. كذلك إذا كان نظامك الغذائي لا يحتوي على أي أطعمة مغذية فإن نقص العديد من الفيتامينات والمعادن الأساسية قد يؤدي إلى خلل في الجهاز المناعي. (3) لا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فرغم أن المجال الطبي لم يعترف في الماضي بالصلة بين الحالة المزاجية والطعام، لكن الطب النفسي الغذائي يكشف لنا اليوم كثيرا حول العلاقة بين نوعية غذائنا وشعورنا، إذ يُنتج الجهاز الهضمي نحو 95% من السيروتونين، وهو ناقل عصبي يساعد في تنظيم النوم والشهية واستقرار الحالة المزاجية وتثبيط الألم. ما يحدث في الجهاز الهضمي لا يقتصر إذن على مساعدتنا في هضم الطعام، ولكنه يوجِّه عواطفنا أيضا، وينعكس ذلك في النهاية على قراراتنا. يتأثر إنتاج الناقلات العصبية (مثل السيروتونين) ووظائف الخلايا العصبية بشدة بمليارات البكتيريا “النافعة” التي تُشكِّل الميكروبيوم المعوي، وهي بكتيريا تلعب دورا أساسيا في صحتنا، فهي تحمي بطانة الأمعاء وتُشكِّل حاجزا قويا ضد السموم والبكتيريا “الضارة”، وتنشط المسارات العصبية بين القناة الهضمية والدماغ، وتُعَدُّ نوعية الغذاء هي الأمر الذي يُحدِّد نوع البكتيريا التي توجد في الجهاز الهضمي لدينا. لا تؤثر البكتيريا الجيدة فقط على ما تهضمه أمعاؤنا وتمتصه، ولكنها تؤثر أيضا في درجة الالتهاب في جميع أنحاء الجسم، فالتغذية غير الصحية تعني أن الجذور الحرة (Free radicals) أو الخلايا الالتهابية المدمرة تنتشر داخل الدماغ، ما يساهم في إصابة أنسجة المخ، والتأثير على المزاج ومستوى الطاقة. (5) حسنا، هناك بعض الأخبار الجيدة هنا. يُخبرنا متخصِّصون مثل بالوما جيل ديل ألامو، وهو اختصاصي الغدد الصماء الإسباني، أننا إذا أسأنا معاملة أجسامنا فإنها تغفر ذلك وتمنحنا دائما فرصة للعناية بها مرة أخرى. (4) وفقا لتجربة نشرتها مجلة “ذا لانسيت” (The Lancet)، فإن تقليل نحو 12% من السعرات الحرارية التي نتناولها لمدة عامين يُقلِّل خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني وأمراض القلب والأوعية الدموية (6)، لذلك، فإن تقليل نِسَب الكربوهيدرات المعالجة والدهون غير الصحية والأطعمة السريعة، مع زيادة تناول الدهون الصحية والأطعمة النباتية والخضراوات الورقية، يمكن أن يكون المُنقذ الذي تحتاج إليه في حياتك. على جانب آخر، يمكن لاتباع نظام غذائي نباتي منخفض الكربوهيدرات المعالجة وغني بالألياف أن يُحسِّن من مستويات الكوليسترول بنسبة كبيرة، ما يسهم في الوقاية من تصلُّب الشرايين. تمتلك الألياف كذلك خصائص مضادة للالتهاب، ولذلك فهي تُعتبر أحد أكثر علاجات تصلُّب الشرايين شهرة، كما أن النظم الغذائية النباتية منخفضة السكر والدهون والملح تمنع تكوين الكوليسترول الضار في الدم مما يمنع حدوث تصلُّب الشرايين. (7) وعلى الرغم مما تُشير إليه بعض الدراسات من إمكانية تراجع تصلُّب الشرايين باتباع تعديلات مُكثَّفة في نمط الحياة واستخدام بعض الأدوية، فإن الدراسات نفسها تكشف عن أن التغييرات المطلوبة تُمثِّل للكثيرين تحديا أكبر مما يمكن لهم تحمُّله، بحيث يبدو التحسُّن ممكنا نظريا فقط، كما تقول جوان إي مانسون أستاذة الطب في جامعة هارفارد. (8) تعرف مثلا أن علاج ارتفاع ضغط الدم المزمن نهائيا غير ممكن، لكن يمكن الحفاظ على ضغط دم معتدل بتقليل تناول الملح وزيادة البوتاسيوم والتوقُّف عن تناول الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من الصوديوم، مع زيادة استهلاك الخضراوات. ويُعَدُّ نظام “داش” (DASH) الغذائي الذي صمَّمته معاهد الصحة الوطنية الأميركية، وهو نظام غني بالحبوب والفواكه والخضراوات والدهون غير المشبعة ومنتجات الألبان قليلة الدسم، ويتميز بانخفاض الصوديوم والسكر، أحد أهم الأنظمة التي يُنصح بها في هذا الصدد. (9) كذلك تُشير دراسات إلى أن الحميات “التقليدية” مثل حمية البحر الأبيض المتوسط تُقلِّل خطر الإصابة بالاكتئاب بنسبة 25% إلى 35%، لأنها غنية بالخضراوات والفواكه والحبوب غير المصنعة والأسماك والمأكولات البحرية، وتحتوي على كميات متواضعة من منتجات الألبان واللحوم الخالية من الدهون، كما أنها خالية من الأطعمة المصنعة والمكررة والسكريات، التي تُعتبر من العناصر الغذائية الأساسية للنمط الغذائي الشائع في الغرب مثلا. (10) تختلف الإجابة باختلاف الأفراد، وعموما إذا كنت قد تناولت طعاما غير صحي لفترات طويلة فقد تعوَّد جسمك على ارتفاع مستويات الإنسولين، ومن المُحتمَل أن تتذبذب مستويات السكر في الدم عند البدء في نظام غذائي صحي، يمكن لذلك أن يؤثر على جودة نومك، لكن مع مُضي الأيام الأولى سيبدأ استقرار مستويات السكر، وستُلاحظ فرقا في الأداء الذهني وزيادة في قدرتك على الإنتاج. (11) على الجانب النفسي فإن اتباع نظام غذائي صحي لمدة أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، بالاستغناء عن الأطعمة المصنعة والسكريات تدريجيا، كفيل بأن يجعلك أفضل بشكل ملحوظ جسديا وعاطفيا (12)، بعد مُضي شهر من نظام غذائي صحي سيُمكنك ملاحظة اختفاء أعراض مثل الصداع النصفي وآلام المفاصل ومشكلات القولون العصبي إذا كنت تعاني من أحدها بوصفها أحد أعراض حمية غذائية غير صحية على مدى زمني واسع. وبعد أشهر قليلة، سوف تصبح عظامك أقوى، صحيح أنه لا يمكنك ملاحظة الأمر، لكن هذا يعني إجهادا أقل والحد من خطر الإصابة بالكسور، كما ستستقر مستويات الجلوكوز في دمائك أكثر من الشهور الماضية. (13) قد يستغرق الأمر نحو 12 شهرا لدى مَن يعانون من تصلُّب الشرايين مثلا قبل ملاحظة تغييرات طويلة الأمد، ويتعلَّق الأمر بتغيير نمط الحياة كاملا وليس لفترة بسيطة كما يفعل البعض. (14) ويطول الأمر أكثر لدى مرضى السكري مثلا، فقد كشفت دراسة علمية لباحثين من جامعة كامبريدج أن نسبة ممَّن شُخِّصوا بمرض السكري من النوع الثاني تمكَّنوا من التعافي بتغيير نمط الحياة واتباع نظام غذائي مكثَّف منخفض السعرات الحرارية وممارسة التمارين الرياضية، حيث عادت مستويات الجلوكوز المرتفعة في الدم إلى طبيعتها لديهم خلال 8 أسابيع، ورغم كونه مرضا مزمنا يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات كبيرة، فقد أمكن لبعض المرضى الشفاء منه تماما خلال خمس سنوات، وكانت نسبة التعافي أكبر لدى المرضى الذين تمكَّنوا من فقدان 10% من أوزانهم. (15) بالطبع نعرف أن التمارين الرياضية لها دور مهم في الوقاية من تصلُّب الشرايين وعلاجه، فهي تُحسِّن وظيفة الأوردة والشرايين، وفي هذا الصدد يُنصح بممارسة التمارين الهوائية لما لها من تأثير على صحة القلب أكثر من تمارين الوزن، لذا تُعتبر 150 دقيقة من التمارين الهوائية متوسطة الشدة أسبوعيا بداية مثالية. (16) لكن رغم أهمية التمارين الرياضية فإنها تلعب دورا ثانويا مقارنة بالنظام الغذائي، ما يعني أنها لن تحمي أجسامنا من غذاء غير صحي. تكشف دراسة لباحثين من جامعة شرق فنلندا أن أداء التمارين بانتظام لمَن يعانون من تصلُّب الشرايين دون تغيير عوامل أخرى مثل النظام الغذائي لا تُحدِث تغييرا في صحة القلب والأوعية الدموية لديهم، إنهم فقط يصبحون أكثر لياقة، والخلاصة هي أن ممارسة الرياضة لا تُعوِّض اتباع نظام غذائي سيئ. (17) في المقابل، تلعب الرياضة دورا مهما في التقليل من رغبتنا في تناول الطعام غير الصحي، وكما تُشير دراسة لباحثين من جامعة ويسترن أستراليا، فإن ممارسة الرياضة تلعب دورا مهما في التخفيف من رغبتنا في استهلاك الأغذية غير الصحية التي قد يدفعنا الإجهاد إلى الشعور بالرغبة في تناولها. أشارت الدراسة إلى أن ممارسة الرياضة لمدة 10 أسابيع بمعدل متوسط يمكنه التقليل من التوتر والقلق والاكتئاب الذي يمكن أن يعقب فترة من الإجهاد الذهني، كما يُقلِّل من الرغبة النفسية لتناول “طعام ممتع” يحتوي على نسبة عالية من السكر والدهون المشبعة، الذي نعتبره في الغالب “مكافأة” عندما نتعرَّض للتوتر. تُشعرنا الرياضة بقدر أقل من الإكراه على اللجوء إلى هذا النوع من الأطعمة، وتؤثر إيجابيا في اختيارات الطعام، وبالتالي فهي تحد مما يُحدثه الإجهاد من أضرار على الصحة والرفاهية.

الخرطوم (كوش نيوز)

Exit mobile version