ابان حكمه قام نظام البشير بترشيح الدكتور عبدالله حمدوك لوزارة المالية ولكنه رفض، ثم رشحته قوى الحرية والتغيير رئيسا للوزراء فوافق، وقد قال له حكيم الامة الراحل الإمام الصادق المهدي في تهنئته برئاسة الوزراء معرضا برفضه السابق ( أبيت الفطيسة، وشعبك عوضك بالذبيحة).
يعلم الجميع ان الدكتور عبدالله حمدوك ليس رجلا سياسيا ولا يملك خبرة في العمل السياسي في السودان، ورغم ذلك تم ترشيحه مرتين في عهدين مختلفين لمناصب رفيعة في الحكم، فلماذا كان ذلك؟ أليس هذا سؤالا منطقيا؟!.
الإجابة بالتأكيد لانه يملك مؤهلات إدارية عبرت عن نفسها من خلال اداءه وأعماله، والاداري الناجح هو بلا شك رجل دولة ناجح، بينما السياسي الناجح والذايع الصيت قد لا يكون رجل دولة ناجح، خاصة اذا لم يكن يملك مهارات كافية في فن الادارة.
السياسة في بلادنا تعتمد على الصوت العالي، مجموعة تتكون من عشرين شخصا يمكنها أن تسيطر على مجال كامل في النشاط السياسي وتؤثر على الشعب بالكامل وتقوده لاجندتها، بينما اداريا لا يمكنها أن تفعل ذلك، فالسياسة عندنا هي عملية دغدغة مشاعر الجماهير وتجييش عواطفها والتأثير عليها واستقطابها للمشروع السياسي الذاتي، وهذا يمكن أن يتم عبر المخاطبات او اللقاءات التلفزيونية او النداوت الخ، وكلها عبارة عن طرح ذو اتجاه واحد من السياسي نحو الجماهير، ولا يتم في معظم الأحوال اختبار هذا الطرح، بينما في الإدارة الأمر مختلف.
في الإدارة انت تعيش وسط الجماهير/العملاء ووسط المشاكل، ودورك الأساسي هو حل هذه المشكلات وإرضاء هؤلاء العملاء، لذلك انت امام عيون الجماهير/العملاء باستمرار، وهم بصورة منتظمة يختبرون قدرتك العملية على حل مشكلاتهم، ويراقبون ابتكاراتك ومهاراتك في تحسين ظروفهم، لذلك الإدارة فن الأخذ والعطاء، فن تبادل المصالح.
رغم الظروف الصعبة والمزالق السياسية المتعددة مازال الدكتور عبدالله حمدوك يجد قبولا من الأطراف المختلفة لانه لم يستخدم أسلوب السياسي في الخطابة حيث بذل الوعود وتضخيم الذات، وإنما استخدم أسلوب الإدارة المتكون من تحديد الأهداف والعمل مع الجميع على تحقيقها بمبدأ ان لكل شخص دور وان تكامل الادوار هو ما سيقود إلى النجاح وليس فعل زيد او عبيد.
المستخلص والمستفاد ان السياسة يمكن أن تقود الجماهير نحو الإيمان والامل بالمستقبل المشرق، ولكن الإدارة الجيدة وحدها هي ما تجعل هذا المستقبل مشرقا فعلا.
في عهود الكبت والدكتاتورية يحتاج الوطن للسياسيين القادرين على احراج وفضح الشمولية ومصارعتها في ادمغة الجماهير وعقولهم وتعبئة الشارع وقيادته نحو الثورة، بينما في عهود الحرية والديمقراطية يحتاج الوطن للادرايين الناجحين الذين يعالجون مشكلات الوطن بسرعة فائقة وبأقل تكلفة.
تحتاج البلاد الفقيرة المليئة بالمشاكل والازمات إلى القليل جدا من السياسيين والكثير جدا من الاداريين. هذه المعادلة اذا اختلت واصبح السياسيون كثر والاداريون أقلة، فإن الصراع السياسي سيستمر بينما ستظل مشكلات الوطن تتراكم وتتراكم بلا حل، وهذا الواقع بالضبط هو ما نعيشه اليوم، حيث مئات الأحزاب السياسية وعشرات الحركات المسلحة، وكل يوم ظهور تحالف سياسي جديد او حركة مسلحة جديدة، الاف ان لم يكن مليون سياسي ينشط الآن في فضاء السودان السياسي، وهو واقع لن يقودنا إلى العبور للاسف الا اذا حدثت معجزة. فهل من مدكر!.
صحيفة السوداني