من أهم عناصر قيم الديمقراطية أنها تفتح منافذ عديدة يمر عبرها الهواء النقي لكي يطهر أجساد الأحزاب من حالة الانتفاخ المرضي الذي تعاني منه، و تيار الهواء يحمل معه كمية كبيرة من الاوكسجين الذي يعيد للجسم حيويته. و الديمقراطية تشكل للبعض خاصة لآهل الشللية و التكتلات حالة من حالات شزوفرانيا بسبب اتساع دائرة الحرية، التى تسمح للعديد من عضوية الأحزاب تجاوز اللوائح و القوانين المقيدة للحريات، و الخروج ببعض الأجندة خارج دائرة الآطر الحزبية لكي تستقطب قطاع واسع من الرآي العام. خاصة أن الأحزاب يجب أن تكون بناءات مفتوحة، و الحوار حول أجندتها خارج الحزب يجب أن يسر القيادة لأنها تفتح لها باب الاستقطاب وسط الجماهير، إلا إذا كانت هناك أجندة لا تتماشى مع الديمقراطية و معادية لها.
أن حالة الضجر من الحوارات المفتوحة دائما تصيب الأحزاب الأيديولوجية ذات البناءات المغلقة، منها الحزب الشيوعي السوداني. هذا ليس اتهاما من عندي بل هو ما كتبه الزميل تاج السر عثمان أبو القيادي في الحزب الشيوعي في سلسلة من المقالات بلغت سبع مقالات بدأها منذ تاسيس الحزب حتى ثورة ديسمبر 2018م، بعنوان ” الهجوم علي الحزب الشيوعي مقدمة لمصادرة الديمقراطية” نشرت في عدد من الصحف الالكترونية، تناولت ما يعتقد أبو أنه يمثل هجوما علي الحزب وصل درجة هدم الحزب. و الغريب في الأمر أن أبو يتهم عضوية حزبية بأنها قد أثارت أجندة خلافية فكرية داخل آطر الحزب الشيوعي ثم خرجت بها خارج الحزب، كأنما الحزب يرفض الحوار في الأجندة ذات الطابع الفكري الذي يحاصر القيادة الاستالينية، و التي لا تملك غير ما جاء في الكتب التقليدية للماركسية الكلاسيكية التي تجاوزتها كتابات ” ما بعد الحداثة” التي نقدت الفكر الغربي و الرأسمالية من خلال فهم جديد للماركسية. و من خلال كتابات أبو المستمر أنه لا يقبل التجديد الفكري في الماركسية.
أن الخطوة التي أقدم عليها أبو في نشر العديد من الموضوعات، تعتبر خطوة جريئة منه بهدف فتح باب الحوار حولها، باعتبار أن النشر لا يجعلها داخل اسوار التنظيم بل يخرج بها إلي الفضاء المفتوح، رغم أن أبو نفسه قد نقد في سفره عملية الخروج خارج أسوار الحزب حيث كتب في الحلقة (6) يقول فيها “صدر خطاب داخلي من المكتب السياسي في أكتوبر 2009 ، أشار فيه الي ضرورة التمسك بضوابط الصراع عبر قنوات الحزب التنظيمية، وأن مواعين الحزب ماضاقت والتي تتلخص في صحافته الداخلية ( الشيوعي، المنظم،..الخ)، وتمت ردود ومناقشات حول ذلك في محور الصراع الفكري في مجلة الشيوعي 173″ و يعتقد أبو أن الخروج بالحوار خارج الآطر التنظيمي كانت له انعكاسات سالبة، حيث يقول في ذات المقال السالف الذكر ” لقد ترك هذا الصراع غير المكشوف لجماهير الحزب أثره السلبي علي العمل القيادي والتعبئة حول وثائق المؤتمر الخامس، حيث ظهرت الأعراض نفسها بعد المؤتمر الرابع عندما اتخذ الصراع شكل الثرثرة والنميمة والتكتلات والشلليات، وقد ترك هذا الصراع اثره في سير العمل في منطقة كبيرة مثل العاصمة القومية” طبعا لغير المتابعين لقضية الصراع داخل الحزب الشيوعي أن الإشارة إلي مجموعة الخاتم عدلان و الشفيع خضر، و خاصة الآخير؛ لأنهم هم الذين قادوا الحملة النقدية للمؤتمر الخامس، الذي كانت تسيطر عليه القوى الاستالينية. و مجموعة الدكتور الشفيع خضر انتقدت المؤتمر الخامس و كانت تحضر معركتها للمؤتمر السادس، لكن باغتتها القوى الاستالينية التاريخية في الحزب و فصلتها قبل انعقاد المؤتمر السادس. و كانت هناك حالة من التوتر انتابت القيادة الاستالينية لأنها لا تعرف حدود الصراع و لا المؤيدين له رغم تجنيدها للعديد للوصول لمعلومات تبين قوة المؤيدن لهؤلاء، و بعد الفصل؛ تحول المؤتمر السادس إلي احتفال مررت عبره القيادة الاستالينية كل ما تريده.
و ينتقل أبو في الحلقة (7) إلي الهجوم علي كل الذين ينقدون ( المركزية الديمقراطية) و هي التي تحد من مساحة الحرية داخل الحزب، و تضع الأمر كله في يد القيادة التي تمرر الأجندة التي تريدها من كل الحوار الذي يدور داخل الحزب. يقول أبو في ذلك “اضافة للأكاذيب والهجوم علي “المركزية الديمقراطية”، التي تعني حرية واسعة في النقاش والالتزام برأي الأغلبية، والدعوة لتفسخ الحزب وتحلله وتصفيته بالغاء مبدأ “المركزية الديمقراطية” ،فضلا عن الاكاذيب حول سيطرة “الستالينية” و” قلة قليلة” علي الحزب، واقصاء د. الشفيع خضر قبل المؤتمر السادس ، علما بأن حيثيات الفصل نُشرت جماهيريا، والأكاذيب حول أن ” عبد الخالق محجوب اسقط مؤتمر الجريف” ، علما بأن فروع الحزب كان دورها حاسما في اسقاط فكرة حل الحزب الشيوعي !!، والحديث عن ” العقلية الستالينية” و حديث أبو يجافي الحقيقة، صحيح أن المركزية الديمقراطية تفتح باب الحوار لكل العضوية عبر الآطر التنظيمية، لكن القيادة غير مقيدة برأي الأغلبية، بل تختار ما تعتقده صوابا للحزب، لكنها لا تسقط مصالح القيادة التاريخية من الحاسب. و إذا كان حديث أبو صحيح كانت تغيرت القيادة و لم يخرج عضو واحد من الحزب. و هذا الحديث تطرق إليه الخاتم عدلان في أطروحته ” آن أوان التغيير” التي شرح فيها مضار ( المركزية الديمقراطية) و تستطيع فئة قليلة السيطرة علي القرارات داخل الحزب. و الزميل أبو من المتهمين بالهيمنة. السؤال لماذا لا ترغب القيادة الاستالينية أن تؤخذ القرارات بالتصويت المباشر و أيضا أختيار الأعضاء للقيادة و المؤتمر تكون عبر الاقتراع المباشر، الذي يؤكد سير رأي الأغلبية. تخاف القوى الاستالينية من الاقتراع المباشر و إذا أقدمت هذه القيادة علي الخطوة في في المؤتمر القادم سوف تضم القيادة 85% من عناصر الشباب، و هؤلاء هم الذين يستطيعون فتح نوافذ الحزب و تطويره و تحديثه و أن تصبح الفلسفة الماركسية أحد المرجعيات و ليس المرجعية الوحيدة.
ينتقل أبو للحديث و لأول مرة عن شلة المزرعة، و التي كانت مسار تعليقات و حديث في وسائل الاتصال الاجتماعي، و كانوا جزء من الحكومة الأولي لحمدوك. يقول أبو في المقال (7) “والنشاط التخريبي التصفوي لمجموعة “شلة المزرعة” التي خربت مع قوي ” الهبوط الناعم ” الثورة واختطفتها لمصلحة الخضوع لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين والاستمرار في سياسة النظام البائد القمعية والتفريط في السيادة ” شلة المزرعة تمثل المجموعة التي كان قد تم طردها من الحزب الشيوعي قبل المؤتمر السادس، و هذه المجموعة التي تم تعينها في مكتب رئيس الوزراء، كانت هادفة بالفعل أن تعيد صراعها داخل الحزب الشيوعي من خلال تقديم العديد من الوظائف القيادية للخدمة المدنية لعضوية الحزب الشيوعي و من خلال هؤلاء تفتح الصراع مرة أخرى داخل الحزب. و في ذلك الوقت سارع الحزب الشيوعي بأصدار بيان رفض فيه تسيس الخدمة المدنية، و شلة المزرعة أيضا أجبرت الحزب الشيوعي أن يعيد قرار عدم المشاركة في هياكل سلطة الفترة الانتقالية إلي قبول المشاركة في المجلس التشريعي، بسبب حالة الاحتجاج داخل الحزب، و التي كانت ترفض قرار عدم المشاركة، أن الحزب الشيوعي في ذلك الوقت رفض الحديث عن شلة المزرعة خوفا من صب الزيت علي النار. و غير مؤكد إذا كان حمدوك جزء من سياسة مجموعة المزرعة أم هؤلاء كانوا يقودوا معاركهم دون علمه. و كانت القيادة الاستالينية مدركة أن شلة المزرعة تريد من خلال السلطة أن تفتح بابا للصراع داخل الحزب الشيوعي الأمر الذي جعل الحزب يخرج حتى من ” قوى الحرية و التغيير” و كل الذي كان يثيره عن العسكر و السلطة المدنية هو عملية تغطية للخروج المبكر حتى لا يسمح لشلة المزرعة أن تلج بعقليات الصراع داخل الحزب. و ربما يكون الحزب الشيوعي نفسه هو الذي أثار قضية شلة المزرعة في الوسائط الاجتماعية و يقودها من خلال بعض من عضويته.
إذا رجعنا للتاريخ قبل انفجار ثورة ديسمبر 2018م كان الحزب الشيوعي يقود تحالف ( قوى الاجماع الوطني) و قد كان رافضا إلي أي حوار مع الإنقاذ، أو الدخول معها في مساومات سياسية، يقول أبو عن ذلك “بعد ثورة ديسمبر 2018 ، استمر الهجوم علي الحزب الشيوعي بكثافة من تلك القوي أو قوي ” الهبوط الناعم” التي وصفت موقف الحزب الرافض للحكم العسكري المدافع عن مصالح النظام البائد ب”التعنت”، وقدمت “دروس عصر” للحزب عن مرونة لينين وعبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد في التكتيكات، وتحسروا عليهم بدموع التماسيح ، ورفعوا قميص عثمان باسمهم ، ويقولون أنه لا فرق بين دعوة الحزب الشيوعي لاسقاط شراكة الدم وبين دعوة المؤتمر الوطني” لكن عدم مرونة الحزب لم تكن نابعة عن قراءة صحيحة للوضع السياسي، بل كانت تمثل حالة حيرة. و يرجع ذلك لطبيعة القيادة التي تقبض علي مفاصل الحزب، حيث كان عمل الأغلبية متمحور في الدائرة التنظيمية و التنفيذية، لم يخرج منهم شخص واحد بعد رحيل محمد أبراهيم نقد إلي السطح باعتباره يشتغل بالشغل الذهني، أي تطلق عليه صفة المفكر، و الفارق كبير. أن المفكر هو القادر علي أختراق الأزمات من خلال مراجعة الأسئلة المطروحة في الساحة السياسية و مدى فاعليتها في عملية التعبئة و الاستنفار للجماهير، و مدي تحريكها لعملية الوعي الجماهيري، إلي جانب فحص كل الأدوات المستخدمة و مدى فاعليتها، و معرفة إذا كانت صالحة أو يجب استبدالها بأخرى. و أيضا المفكر لديه مرونة لكي لا يغلق باب الحوار بل يجعله مفتوحا لمعرفة كيف يفكر الأخرون، و هي لا تتوفر في الكادر الذي كان جل عمله محصورا في العمل التنفيذي، لكن القيادة الاستالينية تضجر من هذا الحديث في اعتقاد أنه يقلل من قدراتها، و يعتقد أنها قدرات متواضعة، البعض في القوى السياسية يفهم ذلك لذلك يحاول أن يجري مقارنة بين القيادات السابقة و القيادات الاستالينية، الأمر الذي لا يرضي أبو و مجموعته. لكن طبيعة الأحداث هي التي تجعل الأخرين يجرون المقارنة. و الآن أبو نقل الأجندة للخارج من خلال سلسلة مقالاته، و عليه أن يجعل الصدر متسعا و الذهن مفتوحا لا أحد يريد أن يلغي الحزب الشيوعي لكن لابد من وضعه في المجرى العام للديمقراطية، لكن بشروط الديمقراطية و ليس بشروط الزملاء. مع خالص التقدير للزميل أبو. و نسأل الله حسن البصيرة.
نواصل قراء مقالات أبو
زين العابدين صالح عبدالرحمن
صحيفة السوداني