ترتفع بعض الأصوات في الفيسبوك ومواقع بيع العقارات محتجة على إرتفاع اسعار العقارات في السودان، ومقارنتها مع الدول الأخرى مثل القاهرة، واسطنبول، او حتى مانشستر في بريطانيا العظمى. متناسين أن هنالك عدة عوامل بتاثر في سعر العقار بصورة عكس ما هو متوقع، هذه الأسباب حصرها في النقاط التالية حسب تقييمي المتواضع:
الإنهيار الإقتصادي: إنهيار العملة وعدم استقرارها بيخلي الناس تهرب من حفظ اموالها في العملة، وبتتجه للأصول، واهما العقارات. في دول اخرى، الواحد بيكون عنده بيت واحد ساكن فيه، وقروشه مشغلها. في السودان الواحد قروشه كلها عاملها عقارات لأنه الإستثمار الجبان الما بياكل ولا بيشرب، وبكرة تبيعه يكون خسران.
العرض والطلب: اقتصاديا معروف، انه كلما قل العرض وزاد الطلب ارتفعت الأسعار، وثقافة تكديس قطع الأراضي واحتكارها ازدادت في العقود الماضية، شخص واحد ممكن يكون محتكر عشرات قطع الأراضي كنوع من الهروب من الاستثمار والإنتاج للمخاطرة الموجودة فيه، وحول معظم رؤوس الأموال إلى طفيليات وسماسرة. وأصبحت قطع الأراضي سلعة تباع وتشترى وتحتكر على المدى الطويل والقصير.
انعدام البنى التحتية: النقص في البنى التحتية والخدمات في الولايات والمدن الأخرى، الخرطوم في خلال العقود الماضية أصبحت هي المقصد لكل سكان الولايات للحصول على الخدمات، بداية من العلاج، الدراسة، الجامعات، فرص العمل وخلافه. الهجرات الداخلية ضغطت على المدينة، الآن الخرطوم فيها ما يقارب الـتسعة ملايين، يعني حوالي ربع اجمالي السكان متكدسين في المدن الثلاثة (الخرطوم، أمدرمان، بحري). بالتالي الطلب على العقار عالي وبيزداد كل عام ويتضاعف.
الطرق والازدحام والمواصلات: انعدام شبكات الطرق الفعالة، وكذلك الإزدحام الشديد خلى الناس تبحث عن السكن القريب، الواحد ما داير يسكن الحاج يوسف مثلاُ عشان يمشي وسط الخرطوم لمكان عمله ويومه كله يضيع ما بين المواصلات، والطرق السيئة، والازدحام.
نهر النيل: العاصمة تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام ونهر النيل جعل صعوبة في العبور من كل قسم إلى القسم الأخر نسبة لقصور البنى التحتية. فهناك تسعة جسور فقط تربط ما بين الخرطوم وبحري وامدرمان بالإضافة إلى جسر واحد يربط توتي. مما يشكل كذلك عبئ زايد وتباعد في المسافات.
التوسع الأفقي: السكان المهاجرين من الولايات والقرى القريبة للخرطوم، جات بنفس الفكرة والفهم بتاع الأقاليم من ناحية طريقة السكن، وعقلية السودانيين بترفض بطبعها فكرة السكن الجماعي المتمثل في المجمعات السكنية والشقق و التمدد الرأسي. وكل اسرة تبحث عن سكن منفصل في شكل بيوت ارضية أرضية وحيشان وكل اسرة محتاجة ما بين 300 الى 400 متر متوسط عشان يكون عندها بيت قائم بذاته يمارس فيه نفس طقوس بيت القرية.
حاليا معظم المساكن ما بين طابق وطابقين في الدرجة اولى، بالتالي عشان تغطي الطلب ده التمدد للمدينة بيكون افقي، والتمدد الأفقي مرهق من ناحية توفير البنى التحتية (طرق، جسور، شبكات مياه، شبكات كهرباء، اسواق، خدمات، …) وأصبحت أطراف المدينة أشبه بقرى من هذه الناحية.
تغير مركز الخرطوم: التركيز حاليا على المنطقة في الخرطوم شرق (شرق المطار) والخرطوم بحري ناحية كافوري، احياء قاردن سيتي شمالا، مرورا ببري، المنشية، الرياض، الطائف، اركويت، الجريف، وحتى حي الراقي والمجاهدين جنوبا. المناطق دي حاليا هي وسط الخرطوم الحقيقي، وكل الخدمات الصحية ، المدارس، الجامعات، والمحلات التجارية متوفرة. مما جعل اسعارها تتضاعف بمتوالية هندسية.
الفئات الجمركية: ده ليه اثر كبير جدا على المباني، أدوات التشطيب مثلاُ ان لم تكن كلها الأغلبية العظمى منها مستورد وحتى المحلي منه اغلى سعرا مقارنة بالدول الأخرى.
البرستيج: تحولت بعض المناطق في الخرطوم إلى مناطق برستيجيه ترفع من قدر الشخص ان تملك او سكن فيها، مثل غرب الخرطوم (قاردن سيتي، بري، حي الصفا، الرياض، الطائف، اركويت، حي الراقي، المجاهدين) وفي بحري منطقة كافوري. ومن المعروف كذلك في الاقتصاد، أن السلع البرستيجيه تقبل عليها بعض الفئات مهما غلى ثمنها، بل غلاء ثمنها يعتبر جزء من ميزاتها.
السلع البرستيجيه تقبل عليها بعض الفئات مهما غلى ثمنها، بل غلاء ثمنها يعتبر جزء من ميزاتها.
البيت في الخرطوم ممكن يجيب ليك ثلاثة شقق في مصر، وثمن شقة في الطايف ممكن يجيب ليك اربعة شقق في تركيا ومعاها اقامة
قد ينبري بعض المتداخلين، ويقوليك البيت في الخرطوم ممكن يجيب ليك ثلاثة شقق في مصر، وثمن شقة في الطايف ممكن يجيب ليك اربعة شقق في تركيا ومعاها اقامة. وانه بيت في المنشية يجيب ليك تلاتة بيوت في مانشستر. الكلام ده كله حقيقي وصحيح، لكن نشوف كمية العرض في القاهرة قدر كم، وعدد الأبراج والمجمعات السكنية قدر شنو، والتوسع الراسي والأفقي مع توفر الخدمات من طرق سريعة وشوارع دائرية، وشبكات صرف صحي بتسمع انك تسكن في اي مكان، بل بالعكس، في القاهرة مثلاُ في ناس طلعت من مصر القديمة المعروفة بالنسبة لينا، وبقوا يسكنوا في الأطراف، او مصر الجديدة والعاصمة الإدارية الجديدة، وباعوا بيوتهم وشققهم الموجودة في الوسط هروبا من الزحمة، وده كله بفضل التوسع في الخدمات عكس الوضع العندنا في السودان.
اما بالنسبة لتركيا، نعم ممكن تلقى شقة بقيمة عشرين الف دولار، وهي قيمة عربية توسان في الخرطوم حاليا، ولكن عليك انك كذلك تقارن، انه تركيا فيها 580 مدينة وقرية، اقل واحدة فيهم فايتة الخرطوم سنوات ضوئية من حيث البنية التحتية والخدمات والمباني والشوارع. واستنبول يقطنها 13 مليون نسمة في مساحة اكبر من خمسة الأف كيلومتر كلها صالحة للسكن. مقارنة بمساحة الف كيلومتر مربع الممكن نسميه مسكون حتى ببيوت بدائية وشوارع معبدة وغير معبدة غير معبدة. والمساحة البتعتبر الفضل للسكن والعليها تنافس عالي لا تتعدي الـ 100 كيلومتر مربع تمثل الأحياء الراقية والأعلى ثمنا. ناهيك عن ان التطور في الإستثمار العقاري في تركيا من حيث تقنيات البناء والمواد المصنعة محليا بصورة 100% داخل تركيا والشركات الضخمة التي تقوم ببناء الآف الوحدات السكنية كل عام بخلي العرض عالي جدا باسعار زهيدة.
كل مغتربينا في المهجر عندهم كتلوج موحد ماشين عليه وهو (اتخرج من الجماعة، اغترب، اشتغل كم سنة، اشترى قطعة ارض، قعد كم سنة بيبني، اخد خروج نهائي، رجع معاه عربية) كدة انتهت دورة حياته. فأساس الإغتراب هو قطعة الأرض والبناء والعربية.
وبتتعالى بعض الأصوات انه ليه ما نشتري في تركيا، ونشتري في القاهرة بدل الخرطوم الغالية، لكن في النهاية تغلب عليهم ارض المحنة، ولو ما عمل بيت في الخرطوم ما بحس بطعم الراحة حتى لو على صوته بذلك.
لانه في جزء كبير من امتلاك البيت هو انجاز يحسب له وجزء من البرستيج والبوبار في وسط العائلة والنسابة، فبيت تركيا لو افترضنا انه كان فيلا مطلة على خليج البسفور، لن يتمكن هو او حرمه المصون من ان يظهرها للأقرباء والمعارف ويقيم فيها الولائم والعزائم. غير انه بالتاكيد لن تنقطع قدمه عن الخرطوم حيث الأهل والأحباب. ولن يتمكن من تحمل تكلفة السفر ذهاباً وإياباً. غير انه فرص العمل كذلك، فلو افترضنا ان حاج احمد قام بشراء بيت في تركيا، او في القاهرة، هل سيتمكن من ان يعيل نفسه وعائلته هناك؟ هل سيتمكن من ان يضمن دخل ثابت يقتات به، هل سيبدل الاهل والرفقة والأحباب، بالراحة والكهربة والجو اللطيف؟
كلنا ستدور بنا الدائرة، وسنعود للسكن في بلد الناس الحنان، ولكن علينا ان نطور من فكرنا من حيث انماط السكن والتأقلم على السكن الجماعي. وعلى الحكومة تنمية الريف وتوفير وسائل الإنتاج فيه لكي تبدأ الهجرة العكسية التي تخفف على العاصمة وتجعل الأرياف أكثر جذبا لكي تصلح المعادلة.
وربنا يصلح حال البلاد والعباد.
بقلم
ابوكنان بيلو