مهما تكن من أصوات رافضة للمصالحة أو لديها وصفات مختلفة لها، على طريقة مصالحة بدون فلفل أو مصالحة على نار هادئة أو بالفرن الساخن، إلا أنها باتت حقيقة ماثلة، وإما أن تتم داخل المطبخ الحكومي أو خارجه أو في دولة أجنبية. لكن في النهاية ما طبخ سيؤكل.
لذلك يستحسن الإقرار بذلك وحذف فترة التمنع والمزايدات من العملية كسبا للوقت.
مع هذه الحقيقة، أجد في كل الوصفات السرية والمعلنة وحتى الصفقات الصغرى التي تتم في الصوالين بين أفراد من هنا ومن هناك بينهم روابط أسرية أو جهوية، عيبا كبيرا وخللا جوهريا فيما هو متوقع من مصالحات.
العيب هو الاستمرار في المنهج الإنقاذي بالربط بين المصالحة والدخول في السلطة. وسبب هذا العيب أن السلطة والسلطة وحدها هي وسيلة تحقيق مصالح الجهات والاحزاب والقبائل وهي الضمانة الوحيدة من الظلم والحيف، ولذلك لن يصالح أي طرف بدون قطعة أو حتى “فتفوتة” في الكيكة، ولو رضي بالدخول للملعب متفرجا سيطالب لاحقا بدوره أو “يبوظ القيم”، لأنه لم تتوفر له مطالبه التي صالح من أجلها.
على سبيل المثال عندما كانت تطالب قبيلة بمحافظة مستقلة عن المحافظة الأم كان السبب أن “الفلانيين بكوشوا على المصالح وبضيعنوا” ولذلك لا بد من استقلالنا عنهم. وبعد نقاش ينتهي الأمر بمنح الجهة المتظلمة منصب معتمد برئاسة الولاية وليس محلية أو محافظة مستقلة. لماذا؟ لأن الغرض هو المصلحة والأمان من الظلم، وبعد دخولهم في السلطة سيتحقق هذا، فالسلطة وليس القانون أو الحريات هو ما يضمن العدل.
اذا كان هذا هو مدخل هذه الحكومة في المصالحة أو المصالحات فهذا يعني فعلا أنها الإنقاذ الثالثة ولم يحدث شيء غير كسر منقار النسر العجوز كما قيل الجدلية المشهورة المنسوبة للدكتور أمين حسن عمر. فقط الذي حدث أن الكسر كان بعض الاسلاميين يرغب في أن يقوم به النظام طوعا والذي حدث أن غير النظام وبشراكة معه قام بالأمر، ثم نبت المنقار الجديد!
أيضا من عيوب هذا المنهج أنه يوفر المبررات للتمرد واستخدام العنف في حالة وقوع ظلم لأي طرف غير ممثل في السلطة لأنه يعلم علم اليقين أنه لا عدالة ولا انصاف لمن ليس عضوا في النادي.
وبهذا يكون المنطق بمصالحة الإسلاميين لأنهم قنابل موقوتة سيجد رواجا .. وبذلك يكون المنهج الذي حكموا به موجود وهم أيضا موجودين، لماذا التغيير إذا؟ على الأقل إذا اضطررت لمصالحتهم لماذا تصالح عيوبهم وفشلهم وتتبناه منهجا لك؟
من جهة أخرى، نقول مجددا، لا بد من المصالحة، ولكن يجب أن تكون بمنهج مختلف، فما هو هذا المنهج؟
كما يقول أهلنا في كردفان “الشوكة بسلوها بدربها”، يبدأ النقاش حول هذا المنهج المحمود بإبطال أسباب المنهج المذموم وهو أنه لا عدالة ولا فرصة ولا استثمار أو نمو لمن ليس شريكا في السلطة.
للمضي قدما في هذا الطريق هنالك عقبات كبرى وصغرى، ومن أعظم العقبات هو وجود جهة سياسية بامتياز تمارس عملا قانونيا وقضائيا.
تحرير المسار العدلي تماما من أي تسييس هو الخطوة الأولى في الحل، وقد يتطلب الأمر التراجع وفسخ قرارات سابقة وتجرع عصير الحنظل المر، ولكن للأسف هذا هو الطريق لبداية الحل، ومن لم يرغب يستحسن ألا يكمل قراءة المقال.
الخطوة المهمة أيضا، اتاحة حرية التظلم وعرض الشكاوي في أي مكان ليس فقط للصحفيين والكتاب بل على مستوى شعبي وولائي.
بالتأكيد، سيقال أن هذا التوجه سيستغله من يريد التخريب أو اسقاط النظام، أو تحرير شهادة عاجلة وفاة للفترة الانتقالية.
لندخل في التفاصيل، من هو الذي يريد أن يفعل ذلك؟! أعداد لا متناهية من البشر بحجم وقوة يأجوج ومأجوج أم جهات محدودة ومعروفة؟
هل يجوز اعتقال حرية شعب كامل لوجود مخربين وجهتين أو ثلاثة؟ هل يجوز رفض المنهج السليم لأمة كاملة بحجة وجود “جهات مخربة”؟
ما الذي تريده هذه الجهات؟ هل لديها قضايا محددة يمكن أن تناقشها معها الحكومة أم أن مطالبها تعجيزية أم أن التفاهم معها سيفضي إلى خسارة حلفاء أو أنصار ومعجبين؟ لماذا لا تتم مناقشة هذه النقطة بصراحة؟
لو قيل الحزب الشيوعي مثلا قد صرح باسقاط الحكومة وايقاف النيولبرالية الاقتصادية، وبعضهم يرى أنه غير جاد في الاسقاط ولكنه فقط يريد ألا يتحمل الحزب أخطاء وخطايا المرحلة، مع بقاء بعض منسوبيه في السلطة؟
لو قيل أن الإسلاميين يريدون إسقاط النظام؟ من هم الإسلاميون؟ هل المقصود الحركة الاسلامية بشقيها الوطني والشعبي وبعضهم يضيف العدل والمساواة والإصلاح الآن؟
أم هم أنصار السنة والسلفيين والصوفية الذين استفزتهم بعض القرارات والتوجهات ولم يكونوا أصلا راغبين في المعارضة؟
هل عبد الواحد نور هو من يرغب في اسقاط الحكومة؟ أم يرغب فعلا في اخضاعها لمطالبه وعلى رأسها التعويضات الفردية؟
لو تلاحظون أن الصراخ المطلق بأن هنالك جهات كثيرة ومجهولة وخطيرة تريد التخريب باستخدام حق التظاهر مجرد صراخ عالى الصوت ولكن اذا تم تفكيك وتحليل هذه الجهات تجد بعضها لا ترغب في الاسقاط ولديها أولويات او مطالب أخرى، بل كل هذه الجهات دون استثناء، نعم دون استثناء، يحتدم داخلها جدل حول الأمر ولم تتوصل لاتفاق داخلي بعد.
ولذلك توجد فرصة لإتاحة حريات اذا ما تم تحييد هذه الجهات أو تقليل عددها وتأثيرها.
أيضا لا يفوتنا أن نضع في الحسبان أن القمع لن يحل المشكلة لا سيما وأن الحكومة نفسها غير مهيئة لأن تكون حكومة قمعية شمولية ولا تساعدها الظروف إطلاقا على ذلك، حتى ولو كانت “بعض مكوناتها” راغبة فهي غير قادرة.
الرهان على القمع يتطلب وحدة بين مكونات الحكومة ونسخة مطابقة لها في الأجهزة الأمنية وقوانين قمعية، ودخول في حلف دولي مؤيد لها (مع روسيا مثلا) ليوفر حق الفيتو لحماية الحكومة لأنها لا تمتلك المال والنفط الكافي لشراء حماية دولية.
هذا لا يتوفر ولو توفر في “هوشة” لأيام سيتبخر بعدها وسيفضحه الواقع، وتسقط الحكومة “بردلب”!
وللأسف بالرهان الفاشل على القمع وتكميم الأفواه تكون الحكومة قد حادت عن طريق المنهج الجديد المطلوب وتجد نفسها مجبرة على محاكاة الإنقاذ في منهج الربط بين المصالحة والمشاركة في السلطة.
ستكون قد فرغت جوال الملح في الأرض ثم اضطرت لكنسه وجمعه بأوساخ إضافية من الأرض لتعبئه في جوال جديد الشكل خارجيا مع أوساخ أكثر داخليا.
بقلم مكي المغربي