في حديث امام ورشة عمل لمحاربة التدفقات المالية غير المشروع، عُقدت في قاعة الصداقة بالخرطوم قبل بضعة أيام، جدد رئيس الوزراء الدكتور (عبدالله حمدوك) تعهد الحكومة بارجاع كل الاموال المنهوبة والمهربة خارجياً وتوجيهها لتنمية واستقرار البلاد!
كان قد سبقه الى الحديث في هذا الموضوع الكثير من المسؤولين منهم وزير المالية السابق (ابراهيم البدوي) والنائب العام السابق (تاج السر الحبر) ووزير الخارجية المكلف السابق (عمر قمر الدين) وآخرون وعدد من السياسيين وقياديون بالحرية والتغيير، تعهدوا جميعهم فى مناسبات مختلفة بعودة الاموال المنهوبة، بدون أن تتخذ الحكومة الإجراءات المطلوبة وهي صعبة وكثيرة ومرهقة جدا، وأخشى أن يكون الموضوع صار مجرد وسيلة لتخدير الجماهير المكتوية بنار الضائقة المعيشية الصعبة والغلاء الفاحش، او تحول الى مناسبة تستعيد فيها الحكومة الذكريات الطيبة !
كتبت من قبل اكثر من خمس مقالات عن هذه القضية المهمة متحدثا عن صعوبتها والإجراءات الطويلة الشائكة التى يجب ان تتخذ لاسترداد الاموال المنهوبة وعلى راسها صدور احكام قضائية ضد المتهمين في محاكم عادلة يتوفر لهم فيها كل فرص الدفاع عن انفسهم، تدينهم بارتكاب التهم الموجهة ضدهم وتؤكد ملكية الدولة للأموال المنهوبة، ومن ثم تبدأ اجراءات استعادتها من الخارج، وهي توجد فى دليل أصدرته عدد من الدول على رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا قبل بضعة أعوام بناء على مبادرة أطلقتها الأمم المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي وعدة جهات أخرى لمكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة، لا بد ان نتقيد بها إذا كنا حريصين على السير فى طريق إستعادة أموالنا من الخارج، وقد يظن البعض انه سهل وقصير ولكنه للاسف طويل وشاق جداً وقد ينتهى بالخسارة!
هنالك على سبيل المثال التجربة المصرية، حيث حاولت (مصر) بعد سقوط (مبارك) إسترداد أموالها من الخارج، وبذلت من اجل ذلك مجهودا جبارا واستعانت ببيوت خبرة دولية كلفتها مئات الآلاف من الدولارات، إلا ان كل ذلك ذهب أدراج الرياح، ولم تنجح مصر فى إسترداد (فلس) واحد، وكان كل ما حققته هو موافقة سويسرا على تجميد بعض الارصدة المملوكة لحسني مبارك وابنائه في البنوك السويسرية لفترة من الزمن مع مطالبتها لمصر بتقديم اثباتات مدعمة بأحكام قضائية للحصول على هذه الارصدة، وعندما انتهت الفترة المحددة بدون ان تتمكن مصر من الايفاء بالالتزامات المطلوبة لصعوبة صدور احكام قضائية تثبت الحصول على تلك الاموال بطرق غير مشروعة، تم فك التجميد وظلت الاموال بالخارج!
غير ان هنالك بعض التجارب الناجحة مثل تجربة نيجيريا التي نجحت فى استرداد مبالغ نهبها الرئيس النيجيري السابق (ساني اباتشا) وهربها الى سويسرا، ولكن بعد مباحثات دامت أكثر من سبع سنوات، بدأت بتحقيق أمني واسع من قبل السلطات النيجيرية عام 1998 بمشاركة سويسرية، الى ان استطاعت في آخر الأمر استرداد اكثر من نصف مليار دولار في الفترة بين 2005 الى 2006 ، ثم مبلغ ملياري دولار في عام 2013 !
وهنالك تجربة الفلبين التي استردت حوالي 2 مليار دولار من جملة 10 مليار دولار نهبها الدكتاتور الفلبيني (فردناند ماركوس)، ولكن بعد قضايا استمرت في المحاكم السويسرية اكثر من 17 عاما!
وكانت تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في استرداد حوالي 29 مليون دولار من لبنان كانت في حسابات تخص زوجة الرئيس التونسي الأسبق بن علي، واستعادت يختا كان محتجزاً بأحد الموانئ الإيطالية، كما نجحت مؤخرا فى استرداد بعض الاموال المودعة فى بنوك جنيف ولكن بعض مباحثات شاقة وطويلة مع الحكومة السويسرية !
المسألة ليست مجرد وعود وتعهدات، أو بالسهولة التى يتحدث بها البعض او كما يعتقد البعض أن استعادة المال المنهوب يمكن أن يتم بمجرد محادثة هاتفية او تقديم طلب الى الدولة المودع بها فيأتى فى اليوم التالى، وإنما عملية طويلة وشاقة تحتاج الى عمل مضن ومجهود جبار وصبر وربما عشرات السنوات، وإذا كنا جادين فى إستعادة اموالنا، لا بد تتوقف الخطب والوعود والتعهدات ويبدأ العمل الجاد بتقديم اللصوص الى المحاكم، بدلا عن المسرحيات الهزلية التى نشاهدها كل يوم!
زهير السراج
صحيفة الجريدة