(1)
استقبلت الكثير من الأحباب – ومحطة شندي تبدو في ذلك الابتهال وهي تفتح أرصفتها وصدور وقلوب أهاليها لاستقبال قطار المشترك وبائعات (العيش والطعمية) ينتشرن على جوانب القطار بصوانيهن التي تنبعث منها رائحة (الطعمية) فيشمها الركاب من محطة (بانقا) للقادمين من الخرطوم ومن محطة (كبوشية) للقادمين من عطبرة.
ودعت أعزاء لنا – حينما كانت لا تحتمل قوانا غير أن نخفي دموعنا في أكمام القميص الذي نلبسه ونحن ندعي الصبر والجلد وليس لنا من ذلك نصيب في محطة شندي.
أحفظ تفاصيل محطة شندي عندما تتحول المحطة إلى (جنينة) و(حديقة) و (بستان) أو طابور استعراض للفواكه – و (منقة) شندي يبقى طعمها في الفم حتى الموسم التالي للمانجو.
كل هذه الأشياء تحتشد في أرصفة دواخلي – غير أني لم يبهرني مشهد قدر صورة (القطار) الذي استقبلته مدينة بورتسودان ، كما تستقبل الأم ابنها الغائب بعد أكثر من (16) عاماً، كان القطار فيها محروماً من مدينة بورتسودان.
الآن فقط يتحقق شوقي في أغنية (قطار الشوق متين توصل) وحسين شندي يمنح الحياة لعجلات القطار ويحرك القضبان ويجعلها تميل طرباً معه وهو يغني (ﻳﺎ ﻗﻄﺎﺭ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺣﺒﻴﺒﻨﺎ ﻫﻨﺎﻙ .. ﻳﺤﺴﺐ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﻓﺎﺗﻚ.. ﻭﻟﻮ ﺗﻌﺮﻑ ﻏﻼﻭﺓ ﺍﻟﺮﻳﺪ ..ﻛﻨﺖ ﻧﺴﻴﺖ ﻣﺤﻄﺎتك.. ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻜﺮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﻌﺎﺩ.. ﻭﻛﺎﻥ ﻗﻠﻠﺖ ﺳﺎﻋﺎﺗﻚ.. ﻭﻛﺎﻥ ﺣﻨﻴﺖ ﻋﻠﻲّ ﻣﺮﺓ.. ﻭﻛﺎﻥ ﺣﺮﻛﺖ ﻋﺠﻼﺗﻚ).
أعتقد أن العجلات تتحرك هنا طرباً من صوت حسين شندي وليس من شدة الشوق.
الآن أحقق (شوقي) وأبله وقطار بورتسودان يدخل لبورتسودان لتعود الحياة إلى أرصفة محطة بورتسودان.. ويرجع الحنين إلى (الصنفورات) الخارجية التي جعلها الشوق لا تصبر حتى يصل القطار للمحطة فخرجت لاستقباله خارج فناء المحطة.
(2)
نحن أولاد السكة الحديد – نعرف قيمة القطار وثقافة المحطات ومسارح الأرصفة.
وُلدنا بين الدرجة الثالثة والدرجة الثانية ، وركبنا (الفرملة) وشلنا (التابلت) وانتظرنا (المقابلة) التي تحدث بين قطرين في المحطة بفارق الصبر.
اتعلمنا من (ناظر المحطة) ولاحقنا (المحولجي) وهو يسعى مهرولاً بين المحطة والكشك.
عبدالعزيز محمد داؤود بدأ مسيرته الفنية من (محولجي) في السكة الحديد لذلك كان بهذا الإبداع.
الخدمة المدنية في السودان انتهت يوم أن انتهت السكة الحديد…. وتدهورت الثقافة يوم أن تدهورت السكة الحديد – وتراجعت علاقات الناس والسلام بينهم يوم أن تراجعت السكة الحديد – وانهار الاقتصاد يوم أن انهارت السكة الحديد.
السكة الحديد كانت انضباط وثقافة وروابط اجتماعية واقتصاد.
أقول كثيراً لأصحابي أنا أشجع الهلال والسكة الحديد وأسمع وردي وعثمان حسين.
(3)
نحن لا نريد من حكومة حمدوك أكثر من ذلك – يمكن أن نحتمل كل ذلك الضنك والتعب والمعاناة.
فقط نريد أن نشاهد مثل هذه الأعمال – عودة قطار وافتتاح مصنع ، وسفلتة شارع وتدشين (كتاب) وبناء (مسرح) وإنشاء (مستشفى).
لا نريد أكثر من ذلك.
نريد أن نشعر بكم وأنتم تعملون …لا تهمنا الخطابات الرنانة ولا العبارات الجاذبة.
لن نتوقف عند الوعود الكبيرة.
نريد أن نشاهد (الشعب) يفرح ويبتهل … مثلما فرح وابتهال في عودة قطار بورتسودان.
حياتنا في هذه الفرحة.
أعيدوا لنا كل ما فقدناه في سنوات الإنقاذ – حرروا ما أخذ من هذا الشعب عنوة.
أعيدوا لنا (بستلة) اللبن الكبيرة و (شاي المغرب) وعشاء (الفطير باللبن).
رجعوا لينا الباقي من الجنيه .. والحفلة التي تنتهي بعد شروق الشمس و (التصبيرة) التي تكون بين الفطور والغداء.
نحن ما زلنا نأكل الفول بلا طعم ونشرب القهوة بدون نكهة ونلبس الجلابية من غير عرقوب.
ننتظر بشوق كبير أن يعود (مشروع الجزيرة) كما كان ليمنحنا قمحه وقطنه عزتنا وكرامتنا التي فقدناها في عهد الإنقاذ.
عودة القطار إلى بورتسودان أفضل من الف مبادرة لحمدوك.
(4)
بغم /
في ملامحنا الهلال والمريخ ووردي وعثمان حسين والسكة الحديد.
صحيفة الانتباهة