الإعلام.. ضِلع حُكومة الثورة المُعوَّج (3)
أوردنا في الحلقة الماضية اسماء الإدارات التي تقع تحت مسؤولية وزارة الثقافة والإعلام والسياحة، والتي يبلغ عددها أكثر من 12 وحدة بجانب هيئات أُخر. وكذلك ثمة روابط إدارية تجمعها مع وزارة الثقافة والاعلام والسياحة في ولاية الخرطوم (12 إدارة) ونزيد عليها بعدد العاملين في رئاسة الوزارة وحدها، حيث يبلغ عددهم 300 موظف في الإعلام و800 موظف تابعين للثقافة والسياحة. وأشرنا إلى أن جميع تلك الهيئات لن تجد لها أثراً في حيوات الناس. ومما زاد الأمر تعقيداً اختيار وزير جاء على حين غفلة، فأصبحت الوزارة عبئاً على الثورة التي كنا نأمل بلورة فلسفتها في رؤية حضارية تتسق وصيتها الذي ملأ الآفاق. ولكن عوضاً عن ذلك تهشمت المرآة الناصعة، وبات الناس يبحثون عن ثورتهم كطفل ضاع من والديه في غمرة زحام!
ضمن تلك الهيئات سنتناول في هذا المقال (وكالة السودان للأنباء “سونا”) على أن يليها المقال القادم حول (الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون) بزعم أنهما الأهم بينها. وأهميتهما ليس بالنسبة للثورة وحدها، وإنما تتضاعف في قطر مترامي الأطراف كالسودان. وعوضاً عن لعب ذلك الدور المُرتجى اصبحتا (كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه) كما يقول المثل العربي الشائع. ومن فرط ذلك ظنَّ بعض الناس ألا قيمة تُذكر لهما. لكن الحقيقة المؤلمة أن النظام البائد وحده من عرف أهميتهما، وذلك لأسباب استطبتنها ولا تُخفى على أحد. والمفارقة ليس من تلك الأسباب إحصائية تقول إن قطاع السياحة الذي ألحق بالوزارة قسراً، كانت عائداته تقدر بأكثر من مليون دولار سنوياً. على الرُغم من أنهم كانوا يعتبرون آثارنا أصناماً والسياحة نفسها رجساً من عمل الشيطان!
واقع الأمر فقد كانت لهم مآرب أخر، إذ صارت وزارة الثقافة والإعلام بوقاً لنظام الكهنوتيين الإسلاموي، وعمل جلاوزته على تثبيت أركانه وتوطيد دعائمه من خلال هيئات الوزارة المتعددة. وفي زماننا هذا أصبحت تلك الهيئات وكراً تدار منه الخطط الماكرة، وتصنع فيه الأحابيل الغادرة، بُغية أضعاف الثورة ووأدها. فلا غرو أن احتشدت تلك الأذرع بسدنة النظام البائد، والذين ما يزالون يسيطرون عليها وأقعدوها عن توصيل رسالتها المناط بها نشرها والمتمثلة في كيفية إدارة التنوع الثقافي الذي ميَّز الله به هذا البلد الأمين، فضلاً عن نشر الوعي الإعلامي عبر الوسائط المقروءة والمسموعة والمرئية. ولكن بدلاً عن قطع الحبل السُرِّي الذي تعتاش به الفلول، إذ بالأستاذ الرشيد سعيد يبشرهم بمزايا جديدة وهم في غيِّهم سادرون!
كانت الهيئتان المذكورتان محط أنظار الفلول فتمترسوا فيهما واتخذوهما منصة لإطلاق النيران الكثيفة. إذ اتجهوا نحو الإعلام الرقمي (الإلكتروني) وقاموا باختراع (دكاكين) سُميت زوراً وبهتاناً (وكالات إعلامية) وخصصوها لنشر الشائعات وتسويِق الأباطيل وتشويِه الحقائق وتزييِف الوقائع. وقد أحصينا منها أكثر من ثلاثين (دكاناً) مشبوهاً وهي: النورس نيوز/كوش نيوز/باج نيوز/ السودان نيوز/ نادوس نيوز/ عاجل نيوز/ نبض نيوز/ سري للغاية نيوز/ الإخبارية نيوز/ كفاح نيوز/ خرطوم نيوز/ الحاكم نيوز/ الحرية نيوز/ البيان نيوز/ سودانية نيوز/ كفاح نيوز/ المجرة برس/ أم بدة نيوز/ برشلونة نيوز/ سكاي نيوز/فوكس نيوز/ بل نيوز/ ترياق نيوز/ تاق نيوز. وكان طبيعياً في ظل العجز الذي ذكرنا ألا يسأل أحداٌ أحداً عن علاقتهم بالوزارة الفتية وسؤال المليون: أين الوكالة الرسمية؟
تأسست وكالة السودان للأنباء في منتصف السبعينيات، أي في كنف الديكتاتورية الثانية، فعملت على نشر آثامها وروجت لها في أركان الكرة الأرضية. ثمَّ جاءت حقبة الديمقراطية فأهملتها كشأن قطاعات أخر، إلى أن وقعت في قبضة الأبالسة، وتسلمها الطيب مصطفى صانع كتائب الشر الإعلامية (1991م- 1994م) فعمل على تمكين أكثر من 80 كوكباً (كما سمَّاهم) وهم الذين يقبضون على خناق الوكالة الآن ويكتمون على أنفاسها. أما إذا سألت لماذا؟ فالإجابة الحاضرة تجدها عند مديرها الأستاذ محمد عبد الحميد. فهو يقول للسائلين عن الفلول (بالطبع أعرف إسماعيل الحكيم وعشرات غيره كيزان وأبقيه وغيره حيث لا يأثرون على محتوى ما تنشر سونا) وإسماعيل الحكيم هذا هو من نعى صانع كتائب الشر بصورة أعادت لأذهاننا خزعبلات (ساحات الفداء) ويزيد عبد الحميد بقوله: (بالمناسبة كل مكان فيه كيزان.. لا يسمح القانون بطردهم) ولعمري في ظل حكومة ثورة فهذا قول لا يجرؤ أن ينطق به أحد سوى المسيح عليه السلام. والمدهش أن الأوروبيين يتداولون في ثقافتهم العامة تعبير نطق به (أوليفر تويست) بطل رواية (تشارلز ديكنز) منذ أكثر من قرنٍ وحتى يومنا هذا، يقول فيه: إن (القانون حمار) The law is an ass أما أنا فلست أدري أي قانون ذاك الذي صاغته القردة لتحتمي به الخنازير؟!
تضم (سونا) 135 اعلامياً بينهم كوكبة صانع الشرور، ولها مراسلون في الداخل والخارج. كما لديها إمكانات ضخمة يمكن أن تدير شئون قارة بأكملها. وقد كان من المأمول أن تؤدي رسالتها السامية في صياغة رؤى الثورة وتوصيل صوتها للعالم الخارجي بشتى اللغات، وتغذية الرأي العام الداخلي بالأخبار الصحيحة من مظانها، وصياغة البرامج التعليمية والتثقيفية ليتلقفها مجتمعٌ أنهكته الديكتاتوريات ويريد أزلامها أن يختطفوا حاضره أيضاً، وذلك بترويج الأكاذيب وإثارة الفتن ونشر الشائعات وبث الدعاية السوداء!
بعد سقوط النظام البائد بأقل من أسبوع (16/4/2019م) خرج أول موكب بدعوة من شبكة الصحافيين (أحد الأذرع الثلاثة التي أسست تجمع المهنيين) تحت شعار (تحرير سونا) وتوجه من أمام مبناها وحتى ميدان الاعتصام. تقدمه ثلة من شرفاء الصحافيين والإعلاميين الذين خاطبوه، كما رفعت فيه لافتات طالبت بتحرير أجهزة الإعلام الرسمية من كوادر النظام البائد وأذنابه. كان لشعار الموكب ونقطة انطلاقه مغزى ينطوي على رسالة واضحة لمن يطمح أن يتسنم مسؤولية الوكالة. ولكن كيف السبيل لهذه الأهداف النبيلة والفلول تتمدد في أروقتها ومن بيده الأمر ينكمش على نفسه، ومحصلة ذلك استمرار الوكالة كحاضنة لسدنة النظام البائد.
في يناير الماضي رفضت سونا استضافة مؤتمراً صحافياً لتجمع المهنيين وكان ذلك أمراً عجباً، ولكن ما هو أعجب كان البيان الذي أصدرته سونا يوم 11/1/2021م برر الرفض بالتالي: (الوكالة اتاحت منبرها للتجمع يوم 27/12/2019م لعقد مؤتمر صحافي بخصوص قضية الشهيد بهاء الدين نوري. ثم يوم 3/1/2020م عقد التجمع مؤتمراً صحافياً آخراً حول موقف التجمع من قانون النقابات، وتقدم بطلب ثالث يوم 9/1/2020م لمعاودة الحديث حول موضوع بهاء الدين، إلا إدارة الوكالة ارتأت ألا تستضيف هذا النشاط لأننا أفسحنا المجال بما يكفي) ورفع الكثيرون حاجب الدهشة وأنا منهم. ولكن لماذا نجتر هذه القصة الآن بعد ما الظنَّ أن النسيان طواها؟ ببساطة استدعيناها للتدليل على أن الفلول تمسك بخناق الوكالة وما زالت. والمفارقة أن تجمع المهنيين ليس أيقونة الثورة فحسب، بل هو من اختار الأستاذ عبد الحميد لوظيفته بينما بيروقراطية (سونا) دحرجته أسفل سافلين!
صفوة القول إن قدر لدعوتنا القاضية بإلغاء وزارة الثقافة والإعلام أن تتحقق، فنحن نقترح أن يبدأ الإلغاء بالوكالة، طالما أنها تعج بالثعابين التي تنفث سمومها في جسد الثورة الغض، بينما الوكالة لا تستطيع لهم صداً.. ذلك باعتراف مديرها أو كما قال!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
صحيفة التخرير