صباح محمد الحسن تكتب: القدال الحزن الحار

أحياناً يكون بكاء بعض الراحلين عن دنيانا الفانية هو بكاء على رحيل كثير من الأشياء والمعاني والمواقف، دموع كأنها قطرات على بحور النقاء والبقاء ، لترتدي الكلمات ثوباً من المعاني البيضاء، وتكسر الجُدر على كل صمتٍ مغلول ، وكأنها صوت جاء من السماء ليحكي لك عن قداسة الأسماء، تلك الاسماء النادرة التي حملت الذكرى على أكف التحنان الجميل، لأولئك الذين عرفونا في العزلة وأصبحوا موئلاً لأرواحنا، ليصبح الحزن عليهم حزن خاص لا تعيشه لسواهم بقدرهم وحجمهم وقيمتهم ، الذين تركوا لنا مساحات فارغة ستظل كما هي للأبد.
ومحمد طه القدال ، ذلك المناضل بالكلمة ، الذي يشبه المحارب في صفوف الدفاع عن الوطن ، الذي لم يبالي يوماً في ضراوة الكلام ، الذي لم يأت كشاعر ليقرأ عليك بعض أشعار القصيد، كان يحمل شروقاً يرهب جوف ظلامهم ، كان سلماً للمتعبين من الصعود الخلفي ، الذين كانت لا تستطيع كلماتهم ان تعبر عن رفضهم او قبولهم او حتى مشاعرهم السمحة الى المحبوبة ، كانت القصيدة القدال ، هي منافذهم المشرعة التي يصدرون عبرها ، مشاعر الشهيق او الزفير ، ليصفق الجميع دون شعور عندما يترجم القدال مايجيش بخواطرهم ، فكثير من قصائده كانت تلد اللحظة الحقيقية، لتئد أقنعة الطغاة ، وتكشف قبحاً أخفق في دور الحسن والجمال.

ومات القدال الذي كان شامخاً ومازال باذخاً بكلماته التي سطرت من نور لتحسم كثيراً من الجدل الذي كان يتسلق نقصان الكلام، ويحوم حول وطني، عندها كان القدال يجعل كثيراً من المهرجين ، تائهون بلا مسرح أو جوقة ، فحتى الذي لم يعرفه عن قرب يعلم أن ثمة تاريخ قد سطر مواقفه ، ليقطع جميع الشكوك والظنون في محبة الوطن بقصيدة تدفعك نحو اليقين ، فتجلّى و رام المجد عنده بكلمة.
والقدال هو (الحزن الحار) للأعين التي تحدق وهي كسيرة ، لذوي الأسئلة والقاطنين في الحيرة، ولثورة مازالت تنشد أهدافها، بالرغم من الظلام الذي بددته ولم يعد مهولاً، وهو الفقد للنضال والهتاف الذي لم يعد يكفينا، رغم ان التصفيق أزعج سكون الظالمين الذين أذعنوا لملامح السقوط، هو فقد للوطن بكل ملامحه، قبائله، لهجاته وأعرافه ، للأرواح المليئة بالتفاؤل التي تحلم بغد أجمل ولتلك التي انطفأت او تلك التي تصرخ دونما مجيب.
ليفقد الناس رجلاً دخل قلوب الناس ولونها بفرح عتيق عرفته البيوت في القرى والمدن لتفتقده الآن عيون الأطفال وجموع الثوار ، ودار الاذاعة ، ويبكيه حرقة ووجعة أزهري محمد علي ، يارفيق دربه الذي قاسمه الطريق، تبكيك حتى الجباه التي سجدت في صلاة النسيان ،ودفاتر الشعر الضائعة في أعين المحبوبة ، والدموع المتأرجحة بين القلب والعين ، وتلك الكفوف التي حملت خرائط العمر والموت أيضاً، اليك وانت تحمل الحلم وتشاركه الناس كلقمة هنية في فم طفل جائع، اليك في مرقدك الأخير ، دعوات الرحمة والمغفرة والقبول.
طيف أخير :
المُقَام في الفَشَقَة
والليل والمُزارع في الحُدود
المُقَام عندك حلايب
والمُصايب ناهْشَة
عِين وطن الجدود
ونرجِّع الشركات
وندمِّج الحركات
وننزِّل البركات
والدنيا في وادينا عيد
فَيَا كيزان جُداد وقُدام
انتو ما فيكم نَصِيح؟
انتو النَيَّة مَتْروكَة
وكُنتُو المَيْتَة مَدرُوكَة
والمدروكة ما سامْعَه البِصِيح
لا إنتو اسياداً صَحيح
لا نِحنَ كُنالْكْم عَبِيد
الراحل الحي
محمد طه القال يبق

صحيفة الجريدة

Exit mobile version